ثقافةصحيفة البعث

وفي الأدب.. “المعلّم الأوّل” حاضر في الذّهن والحرف

تميلُ دراسات حديثة إلى القول بعدم وجود معلّم أوّل للبشرية، وإلى أنّ التّدريس والتّعليم لم يكن له معلّم أوّل وتربطه باختراع الإنسان لأدواته ومن ثمّ تطويرها ونقلها عبر الأجيال.

وفي المقلب الآخر، يمنح مؤرّخون لقب “المعلّم الأوّل” للفيلسوف أرسطو طاليس (384 – 332 ق. م) من مؤسّسي الفلسفة الغربية، وبرز بكتاباته الشّاملة في مختلف المجالات، وكان لديه عدد من التّلاميذ أبرزهم الإسكندر الكبير، إضافةً إلى تأثّر العديد من الفلاسفة والعلماء فيه كابن سينا وبطليموس وابن رشد والفارابي الذي أطلق عليه معاصروه لقب “المعلّم الثّاني” لاهتمامه بمؤلّفات أرسطو وتفسيرها وإضافة التّعليقات عليها.

وفي مراحل تاريخية لاحقة، وصولاً إلى يومنا هذا، كان هناك معلّمون كثر في مختلف مجالات العلم والفنّ والأدب، وكان هناك تلامذة كثر، بعضهم يتفوّق على معلميه وبعضهم يتنكّر لهم والبعض الآخر يتذكّرهم بكلّ ودّ واحترام. تقول الرّوائية رنا العسلي: الأديب بشكل عام هو نتاج مجتمعه وتأثّره فيه وله طريقته الخاصّة بنقل ثقافته على الورق، ولابدّ للأديب صاحب الرّسالة الفعّالة والمنتجة من أن يكون قد تأثّر بالعديد من الكتّاب من أوّل بذور المعرفة والمطالعة إلى مرحلة الإنتاج.. أعتقد أنّ الدّور الأساس الذي يحقّق الانتقال من مرحلة الهواية إلى مرحلة النّضج هو للأسرة، ومن ثمّ المعلّم الذي ينتبه للموهبة بمراحلها الأولى وينمّيها بالتّوجيه والاهتمام ووضع المادة المفيدة بيد صاحب الموهبة، فالطّفل يكون أشدّ التّأثّر بمن يهتمّ به ويقوّي في داخله ما يحبّ ويشجّعه، ثمّ يأتي دور المطالعة في تنمية المفردات واللغة، ولا ننكر أنّ التّاريخ الأدبي غنيّ بأسماء لا يُستهان بها كان لها دور كبير في التّأثير على هاوٍ يبدأ طريقه في الكتابة، بالنّسبة إليّ كلّ كلمة لها دور فعّال مهما كانت، ولا أبخس دور أيّ كتاب مهما كانت آراء النّقاد فيه، فهو بالنّهاية نتاج تجربة شخصية لفرد ما.

بدوره، يخبرنا القاصّ والرّوائي عبد الله نفّاخ عن معلّمه الأوّل في الأدب أو المعلّم الذي شجّعه وحفّزه باتّجاه الأدب، يقول: كان صديق والدي الأقرب الدّكتور عدنان درويش الشّخصية الأكثر أهمية في تحفيزي ودفعي باتّجاه الأدب، وهو رجل تراثي بحت، أفنى عمره في تحقيق المخطوطات ودراستها وشغل منصب مدير إحياء التّراث العربي بوزارة الثقافة قريباً من أربعين سنة، وقد وجّهني أوّل الأمر إلى كتابة المقالة، لكنّني اكتشفت ونبّهني أساتذتي كذلك إلى أنّ فنّ المقالة الأدبية لم يعد معترفاً فيه في الأوساط الأدبية كما كان في القرن الماضي، فيممت شطر القصّة القصيرة والرّواية، مضيفاً: أمّا من الأدباء فقد كان تأثّري هائلاً بمصطفى صادق الرّافعي فترةً طويلةً من الزّمن، حتّى كان القرّاء يحسبونني أسرق من نصوصه، وقد بذلت جهداً كبيراً لأخرج من عباءته، وما يزال أثره واضحاً لديّ في تركيب الجملة والصّياغة اللغوية، أمّا في مجال الرّواية والقصّة فأنا مدين في المقدّمة لاثنين: من العرب نجيب محفوظ، ومن الغرب ادغار آلان بو، فالأوّل علّمني فنّية الرّواية والقصّة وتقنية كتابتها، والثّاني أخذت عنه الأفكار والخيال والعوالم الغريبة والدّقائق النّفسية التي كان يطرق بابها.

تلاميذ كثر صاروا أساتذة يأخذون بأيدي تلاميذهم وينمّون مواهبهم كما فعل أساتذتهم في الماضي، تروي لنا الشّاعرة إيمان موصللي تجربتها مع طلّابها، مستذكرةً معلّمة كان لها دور في تشجيعها ومن ثمّ الشّاعر الذي تأثرت فيه وتعدّه المعلّم الأوّل، تقول: في مرحلة الإعدادية كان لديّ مدرّسة لغة عربية رائعة هي أوّل من صفّق لموضوع التّعبير الذي أكتبه، ومن هنا بدأ شغفي بالكتابة وصرت أكتب على غير دراية وأتقن اللغة العربية بكلّ مناحيها، ومع الوقت وصلت إلى مرحلة الدّراسة الجامعية ودرست على غير ما توقّع من حولي اللغة الإنكليزية وتعرّفت على أفق جديد، وفي المرحلة المتقدّمة من موهبتي حفظت وقرأت وعشقت ما يكتبه الشّاعر رياض صالح الحسين وهو المعلّم والقدوة.. أمّا اليوم وعلى الرّغم من كوني معلّمة لغة إنكليزية إلّا أنّي أرعى مواهب طلّابي وأنشر كتاباتهم وأشجّعهم على القراءة وتلخيص القصص، ولاسيّما أنّي المشرفة على مسابقة “تحدّي القراءة العربي” في مدرستي التي ترعاها دولة الإمارات وبإشراف وزارة التّربية.

في مثل هذا اليوم ومن كلّ عام يستذكر الجميع قصيدة الشّاعر أحمد شوقي في المعلم والتي يقول فيها:

قم للمعلّم وفّه التَبجيلا              كادَ المُعلّمُ أَن يكون رسولا

أَعَلِمتَ أَشرفَ أَو أَجلَّ من الَّذي   يبني وَيُنشِئُ أَنفُساً وعُقولا

سُبحانَكَ اللَهُمَّ خَيرَ مُعَلِّمٍ           علَّمتَ بالقَلَمِ القُرونَ الأولى

أَخرَجتَ هَذا العَقلَ من ظلماته    وهديته النورَ المُبينَ سَبيلا

لكن قلّة تستذكر قصيدة إبراهيم طوقان “الشّاعر المعلّم”، ونقتبس منها:

شوقي يقول وما درى  بمصيبتي  قم للمعلّم وَفِّـهِ التَّبجِيــلا

اقْعُدْ فَدَيْتُكَ هل يكونُ مُبَجَّلاً  من كَان لِلْنَشْء الصِّغار خَليلا

ويَكَاد يَفْلِقُنِي الأَمير بقوله    كادَ الْمُعَلِّم أن يكون رسُولا

لوْ جرَّب التَّعليم شَوقي ساعة   لقضى الحياة شقاوةً وَخُمُولا

حسْب المُعَلم غُمَّـة وكآبة     مرْأَى الدَّفاتر بكرةً وأَصيلا

إلى قوله:

لا تعجبوا إن صحت يوماً صيحةً ووقعت ما بين البنوك قَتِيلا

يا من يريد الانتحار وجدته   إنّ المعلّم لا يعيش طَويلا

نجوى صليبه