التعليم في صوره الأجمل والأبقى
على الورقة النقدية لدولة السويد ذات القيمة 20 كرون، صورة لسيدة هي الكاتبة السويدية سلمى ليكروف الحائزة على جائزة نوبل للأدب سنة 1909. أما الوجه الثاني فيحمل معلومة شيقة، حيث يمثل الفيلم الكارتوني نيلز، وهو الطفل الذي قام قزم بمسخه، فحوّله من حجمه الطبيعي إلى حجم صغير جداً، وذلك عقاباً له لإيذائه الحيوانات. ولكن، وبسبب حجمه الجديد أصبح يركب على ظهر الإوزة الداجنة مورتن، ثم قام بالسفر مع الإوز البري رفقة مورتن شمالاً في فصل الصيف وجنوباً في فصل الشتاء مروراً بمناطق مختلفة التضاريس.
قصة نيلز لم تُكتب بالمصادفة، وإنما كان هدفها عميقاً، والسبب في كتابتها هو ضجر أطفال السويد من كتاب الجغرافية وعدم رغبتهم بحضور دروسها، وبعد عدة دراسات قامت بها وزارة التربية السويدية اكتشفت أن السبب يعود لرتابة كتاب الجغرافية المقرّر، بحيث يكون مضجراً للأطفال لفهمه لذلك طلبوا من الكاتبة سلمى أن تكتب كتاب جغرافية جديداً وممتعاً.
وكانت نتيجة عمل 6 سنوات، طافت فيها سلمى بكل أرجاء السويد، الكتاب الرائع (نيلز هولكر سونس ورحلته عبر السويد)، عام 1906، الذي جعل الكبار قبل الصغار يقبلون على قراءته، وكان السبب الذي جعل أطفال السويد أيضاً يرغبون من جديد بفهم جغرافية بلدهم، ليترجم الكتاب فيما بعد إلى 12 لغة، وليصبح كذلك مسلسلاً كرتونياً.
في الواقع، السعي وراء فكرة، ثم الإمساك بها لتحويلها لعمل إبداعي صرف، سيوصلك حتماً لتكون رقماً مميزاً في عالم المبدعين، وأعظم الأعمال تبدأ بخطوة صغيرة أو فكرة ضئيلة، كالبذرة ما تلبث أن تتحوّل إلى شجرة عملاقة تتكاثر لتغدو غابة فسيحة.
حينما تبدأ قدما الطفل الصغير بارتياد أبواب المدرسة ومقاعد صفوفها، ليبدأ رحلته الطويلة مع العلم والتعلم، سيكون بالطبع كيان متعدّد الأسماء والأشكال قد دخل حياة الطفل وشارك أهله في عملية تربيته وتعليمه وتهيئته ليصبح رجل المستقبل الموعود، ولا تقف حدود هذه المشاركة عند التعليم فقط، فهي عملية متكاملة مخططة ومرتبة لتوصل الابن إلى الغاية المرجوة وليحقق الهدف الذي يطمح إليه.
أصبح الأستاذ مرشداً ووصياً بطريقة ما على حياة الأبناء، يوجّههم ويهذبهم ويعلمهم ويساعدهم في تخطي مشكلاتهم، فقد يعرف عنهم في بعض الجوانب ما لا يعرفه الأهل عن أبنائهم، مما يؤهله ليكون موجهاً نفسياً وتربوياً ومعرفياً وإدراكياً وحياتياً يتشاطر مع الأهل تكوين التلميذ وتوجيهه وتربيته بطريقة صحيحة تدعم بنيانه النفسي والعقلي والاجتماعي، فيضمن لنفسه مستقبلاً واعداً بكل ما يتمناه الأهل -والمعلم معهم- لأبنائهم من حياة ناجحة وعطاء يسهم في تعزيز بنية المجتمع وتطوره.
ومثلما يلتزم الابن بوفاء تجاه أهله وأسرته، لا بد له من أن يحسّ بمشاعر الوفاء قولاً وفعلاً تجاه معلمه – بالجمع وفق توالي السنين والمراحل والعلوم – وكم من قصص عرفناها عن هذا الوفاء الذي لا يعبّر عن الامتنان فقط، بل يتجاوزه إلى شكل من التقديس كردّ جميل للدور الذي أسهم به في تربية الأجيال وصناعتها وتحقيق طموحاتها، ولن تشكِّل حالات نكران الجميل الشاذة نموذجاً مقبولاً عند غالبية الأبناء.
لا أزال أذكر معظم المعلمين الذين درسوني في المراحل المختلفة المبكرة والثانوية والجامعية، وأدين لهم بما قدموه لي من علم ومعرفة واكتشاف لآليات العيش والمستقبل والحياة وجدواها، حتى مع أولئك الذين لم يفلحوا في طريقة تعاملهم مع التلاميذ فأعطوا ما يعدّونه العلم الوحيد بصورة مرعبة، ولم يقدِّروا – لقصور في منهجيتهم – أن في وسعهم شرح أفكارهم بطريقة تتيح المجال للعقل للتفكير والحكم بدل الفرض والإلزام بناء على الترهيب والوعيد. مع ذلك، فهذا القليل لم يسوّد بياض الصفحة التي أحملها لهؤلاء المعلمين الذين أثروا حياتي مثلما فعل أبي وأمي وأهلي وأصدقائي ومعارفي في مسيرتي الحياتية. ومن هنا، وبهذه المناسبة العزيزة المنتَهَزَة – عيد المعلم – ندعو أنفسنا للتعبير عن شكرنا للمعلم وإعجابنا بدوره وإسهامه في تكويننا سلوكياً ومعرفياً.
وهي فرصة أيضاً لنستعيد قول شوقي – صياغة ومعنى – في الوفاء للمعلم “قم للمعلم وفه التبجيلا”، لتأكيد تقديرنا لجهد من أفنى حياته في سبيل دفعنا إلى الأمام، لنكون بناة مستقبل جديد مشرقٍ قوامه العلم والحضارة والتقدم، وبعيدٍ كل البعد وبالسنوات الضوئية عن الجهل والظلمات والتخلف والفوضى، وهل هناك من ينطبق عليه ذلك الوصف أكثر من المعلم، يقول أحمد شوقي: “أرأيت أشرفَ أو أجلَّ من الذي يبني وينشئ أنفساً وعقولا؟”.
جمان بركات