الأم السورية .. عطاء بلا حدود ومنارات تهدي الأجيال
حرفان اختصرا في أعماقهما آلاف المعاني التي تجسدت بكلمة “أم”، والتي حملت بين طياتها فيض من المشاعر الممزوجة بالألم والخوف والتعب والأمل برؤية فلذات أكبادها في مراتب عليا رسمتها لهم عبر ليال طويلة من السهر والتعب والحنان، هي الأم التي تشتتت الأبجدية في وصفها يطل عيدها علينا غداً في عام جديد من الأعوام القاسية التي مرت على أمّنا سورية ليأتي علينا عيد الأم هذا العام بين أم ضحّت بابنها فداء للوطن وبين ابن فقد أمّه وبين أم تنتظر رؤية ابنها القادم من خدمة وطنه وبين أم ودّعت ابنها المهاجر.
أم الشهيد
والأم السورية هي تلك المرأة التي أنجبت رجالاً قدمتهم قرباناً لهذا الوطن حين ناداهم، وهي المرأة العاملة التي لم تتوان لحظة عن العمل في مؤسسات ومعامل بلدها خلال الحرب والسلم، وهي الأم التي ذاقت مرارة الحرب وغربة أبنائها عنها لسنوات طويلة استطاعت شاشات التكنولوجيا لمّ شملها معهم ورؤيتهم عبرها على أمل لقاء قريب، إذ لم يخلو حي ولا شارع ولا منزل سوري من صور الأبناء الشهداء ممن أمست أمهاتهم تزورهم في قبروهم في عيدهنّ بعد أن كنّ ينتظرنّ قدومهم مع الهدايا للاحتفال بهنّ، وفي منزل آخر نجد الأمهات ممن اختصرن حلمهن برؤية أبنائهن في الغربة ولو ليوم واحد.
أم أكرم لم تجد كلمات تسعفها للحديث عن هذه المناسبة سوى بالقول “ما بقي بالكرم غير الحطب” وتغمض عينيها في كل ليل على أمل أن يطرق أحد من أبنائها الخمسة المغتربين الباب في الصباح لتكحلّ عينها برؤيتهم قبل موتها..
وبالمثل تقول أم يحيى التي فقدت ولديها في الحرب والتي بات عيد الأم اليوم بنظرها ونظر الأمهات يحمل في طياته الكثير من معاني الفخر ببسالة أبنائهنّ والكثير من معاني الحزن والألم كباقي الكثيرات من الأمهات الثكالى اللواتي يبحثن عن رائحة أبنائهن في كل من يمر على أبوابهن.
تجربة استثنائية
ولأن سنوات الحرب طالت وتعاظمت قسوتها معها على جميع فئات المجتمع، وجدت المرأة السورية نفسها أمام تحدي كبير لتحمل قسوة الحياة ومجابهة متطلباتها الكثيرة في الوقت الذي فقدت فيه معيلها في الحرب أو في السفر، لنجد الأم في الكثير من المطارح هي الأب والأم في آن معاً وهي المرأة العاملة خلف الآلات في المعامل لتخوض تجربة استثنائية مليئة بالصعوبات لتأمين رزق عائلتها ناهيك عن أنها استطاعت أن تخلق من وسائل بسيطة تقتنيها في منزلها نواة لمشاريع صغيرة تعود عليها بالربح، لتثبت مراراً وتكراراً نجاحها وتفوقها وعظمتها كأم وامرأة سورية رغم صعوبات كبيرة وضغوطات من الصعب مقاومتها لعل أهمها عدم وجود دور حضانة لأطفالهم في أماكن عملهم أو قريبة منهم الأمر الذي يشتت ذهن المرأة الأم عن عملها ويبعث القلق والخوف على أطفالها خلال ساعات عملها الطويلة، إضافة إلى الكثير من الصعوبات والحقوق التي لا زالت في رسم الانتظار والتي من شأنها حماية المرأة وضمان عيش كريم لها ولأبنائها مدى الحياة.
رموز وهدايا
ويجمع من التقيناهم على اقتصار عيد الأم خلال السنوات الأخيرة على المعايدات الفيسبوكية من قبل الأبناء المغتربين، والزيارات الخالية من الهدايا من قبل الأبناء ممن لا زالوا في البلد لأمهاتهن خاصّة مع الارتفاع الفاحش لجميع مستلزمات الحياة وعدم قدرة الأبناء على تقديم الهدايا، الأمر الذي لم يُفرغ عيد الأم من معانيه السامية في حين أفقد الكثير من تجار المصاغ واللباس من أرباحهم المنتظرة في هذا العيد بفارغ الصبر خاصة مع كساد بضائع الكثير من التجار هذا العام في ظل ارتفاع مستوى المعيشة وانخفاض القدرة الشرائية للمواطنين بعد أن أصبح سعر أدنى هدية يفوق الراتب الشهري للموظف!.
الباحث الاجتماعي أحمد موصللي يرى أن انعدام الهدايا في هذه المناسبة لا يفقدها أهميتها ومعناها السامي، معتبراً أن الأم السورية هي الأكفأ والتي يجب أن تحظى بالاحتفال خلال سنوات الحرب أكثر من أي امرأة أخرى لاسيّما وأنها كانت المرأة والأم والأب والأخ والعاملة والسند في الكثير من المطارح، واستطاعت أن تمارس جميع الأدوار مرتقية للأداء الإنساني الشامل، ويصرّ موصللي في حديثه على أن الاحتفال بالأعياد بشكل عام في سورية اختلف خلال سنوات الحرب، كذلك الأمر بالنسبة لعيد الأم الذي لم يعد ملتقى شمل الأبناء وأمهاتهم وتقديم الهدايا وإقامة حفل صغير والذي بات اليوم حكراً على قلّة من المواطنين، ناهيك عن الحزن الذي غلّف قلوب الأمهات الثكالى ممن تتعالى دعواتهن بالرحمة لأبنائهن في هذا اليوم ككل يوم وهنّ يطوفون حول قبورهم بالبخور.
تحية إكبار
وبعيداً عن الهدايا الرمزية والمادية وأمام عطاء الأم السورية اللامحدود والتضحيات الكبيرة التي تقدمها الأم العاملة، والعطاء المقدّس الذي قدمته أمهات الشهداء، ولوعة اشتياق الأمهات لأبنائهن المغتربين ولكلّ أم ضحّت وتضحي.. ألف تحية إكبار، وألف قبلة على جبينكن، وكل عام وأنتّن منارات نهتدي بها ومدارس في الصمود والعطاء.
ميس بركات