في الأدب والفنّ.. أمّهات يؤكّدن نظرية “الألم المبدع”
“لم أرسم أبداً أحلاماً، بل أرسم واقعي الحقيقي فقط”.. عبارة تذكرها الفنانة المكسيكية فريدا كاهلو في سيرتها الذّاتية، واقع كما جسدها مثقل بالجراح، فقد أصيبت في عمر السّادسة بمرض شلل الأطفال وتحديداً برجلها اليسرى أمّا اليمنى فبقيت تنمو بشكلٍ طبيعي، ما أدّى إلى عرجها فيما بعد، وأثناء رحلة قامت بها في عام 1925 تعرّضت لحادث مأساوي تسبب بكسور في حوضها وعمودها الفقري، وبالتّالي خضوعها لأكثر من ثلاثين عمليةٍ جراحيةٍ وللإقامة شبه الجبرية في المنزل فترةً من الزّمن، لكنّها لم تحدّ من طموحها أو رغبتها في أن تكون شخصاً مهمّاً في فنّ الرّسم، إذ استغلت الفرصة لتطوير ذاتها وأدواتها، فرسمت لوحاتٍ عدّها النّقاد آنذاك غريبة والبعض الآخر قال إنّها تعكس الفنّ المكسيكي الشّعبي، لتقيم لاحقاً معرضها الأوّل في معرض جوليان ليفي.. لم تحقق فريدا شهرةً واسعةً في حياتها، بل كان ذلك بعد وفاتها، ففي عام 2004 تمّ حجز مكان للوحاتها وممتلكاتها الشّخصية في “البيت الأزرق”، أكبر معرض أمريكي، ومن بينها مجوهرات وملابس وأطراف صناعيّة ومشدّات استخدمتها طوال حياتها، كما أخرجت المخرجة جوليا تيمور فيلماً سينمائياً عنها يروي جزءاً من معاناتها بأسلوب شّيق وصورة لن نقول إلّا أنّها أشبه بالحقيقة، وفيه جسّدت شخصيتها الفنّانة المكسيكية ذات الأصول اللبنانية سلمى الحايك بإتقان ومحبّة.
أمام كلّ هذه الشّهرة والإنجازات، لم تكن فريدا قادرة على تحقيق إنجازها الأعظم في أن تصبح أمّاَ، فجسدها الضعيف لم يكن قادراً على تحمّل الأطفال بسبب حادث الحافلة الذي تعرّضت له في 1925، لذلك وكبديل للأطفال كانت تجمع العديد من الدّمى والحيوانات الأليفة مثل القرود والكلاب والطّيور والغزلان، وكانت ترسمها في لوحاتها كاللوحة التي رسمت فيها أحد كلابها النّادرة والمرتفعة السّعر، ربّما كانت تشعر مع هذه الحيوانات بشيء من الأمان والمودة التي افتقدها في علاقتها مع زوجها الذي خانها.
“الألم المبدع” مصطلح متداول في حياتنا اليومية والثّقافية، لكنّه يبقى أقلّ بكثير من الألم الحقيقي والإبداع الحقيقي الذي قد يعانيه أديب أو فنّان في أي مجال من مجالات الفنون كان. وعلى ما يبدو، فإنّ الألم يدعو البعض إلى التّأمّل والسّمو واستعادة التّوازن ومن ثمّ التّعبير بطريقة خاصّة تظهر للعلن في قصيدةً جميلةً أو أغنيةً خالدةً أو روايةً مميزةً كالتي قدّمتها التّشيلية إيزابيل الليندي يونا. ولن نخوض في نفيها إلى فنزويلا، بل في مرض ابنتها باولا، ومن ثمّ وفاتها في عام 1993 بعمر الثّامنة والعشرين، فكانت الصّدمة الأكبر في حياة الأم الثّكلى والمرأة القوية التي حوّلت فاجعتها إلى كتابٍ أسمته على اسم ابنتها ورصدت ريعه لدعم مراكز علاج السّرطان، وفي افتتاحيته تقول: “في شهر كانون الأوّل من عام 1991، أصيبت ابنتي باولا بمرض خطير، ثم دخلت في غيبوبة، وقد كتبت هذه الصّفحات خلال ساعات لا حصر لها أمضيتها في ممّرات المستشفى في مدريد في غرفة بفندق عشت فيه شهوراً، وكذلك بجانب سريرها في بيتنا بكاليفورنيا في صيف وخريف عام 1992. اسمعي يا باولا، سأقصّ عليك قصّة كي لا تكوني ضائعة تماماً عندما تستيقظين”.
وفي الأدب أيضاً، نذكر الشّاعرة الرّوسية آنا أخماتوفا المرهفة الإحساس والوجع، والتي بدأت طفولتها بألم المرض وانفصال والديها ووفاة صديقتها ومن ثمّ فقد زوجها الأوّل والثّاني، لكن يبقى حزن الأمّ على ابن روحها الوحيد هو الأشدّ قسوةً، إذ يتمّ اعتقاله وتعذيبه طوال عشرين عاماً، تضطر حينها لكتابة خمس عشرة قصيدة وإهدائها لأحد القادة كي لا يعدموه.
وإن انتقلنا إلى الوطن العربي، سنجد الفنانة الاستعراضية شريهان واحدة من رموز التّحدّي، فعلى الرّغم من ظهورها الأنيق والمرح دائماً، فقد مرّت بحوادث وآلام عدّة، بدءاً من عدم اعتراف والدها بها مروراً بمعركتها مع مرض السرطان، ثمّ الحادث الأليم الذي تعرّضت له وتسبب بكسر في عمودها الفقري والحوض وخضعت لعلاج استمرّ سنوات، وفي المرض والحادث ظنّ كثيرون أنّها لن تعود للحياة مجدداً، لكنّها قاومت كل الملّمات ونجت وتزوّجت وأنجبت من زواجها السّري ابنتها الأولى لؤلؤة لتكون سبباً لإعلان زواجها السّري ومن ثمّ إنجاب ابنتها الثّانية تالية.
ومن مخضرمات الدّراما السّورية، كانت الرّاحلة نبيلة النّابلسي التي جسّدت شخصيات متعددة للأم بحبّ وحنان كما لو أنّ الكلّ أبناءها، وهي التي أكدت في أحد حواراتها أيضاً أنّ ولادة ابنها سامر، في عام 1976، كان الحدث الأبرز الذي غيّر حياتها وأنّها اختارت حينها البقاء بجانبه، ولم تعمل حتى ولادة ابنها الثاني أنس، عام 1983، وهو من ذوي الاحتياجات الخاصّة.. ابن لم تخفه يوماً أو تخجل من مرضه أو تتأفف منه في زمن كان هذا المرض حينها أمراً مخجلاً لدى البعض إن لم نقل لدى الكثيرين، بل إنّها كانت تفاخر به وبذكائه حيث أنّها ظهرت معه في برنامج المواهب المخصص للأطفال “زينة الدّنيا”، الذي كان يعرض على القناة الأرضية السّورية، وفي زيارة لمنزلها قبل رحيلها بسنوات كانت تحدّثنا عن ذكائه وحبّه للتكنولوجيا والحاسوب، ومع كلّ ما يتطلبّه وضع ابنها الخاصّ إلّا انّها وافقت بين أمومتها وعملها الذي تطلّب سفرها في مرّات كثيرة.
مرحلة العطاء الأمومي بعد العناء الحياتي مستمرة عبر السّنين، ويبدو أنّها قدر مشترك لجميع النّساء في العالم في السّلم والحرب، تماماً كالحرب التي قدّمت فيها أمّهات سوريّات أغلى ما يملكن فلذات كبدهن، ومثالنا هنا الفنّانة التّشكيلية صريحة شاهين التي حوّلت استشهاد ابنها وغياب ولديها الآخرين الدّائم عن المنزل للدّفاع عن الوطن إلى لوحات تروي قصصاً لتكون طير سلام ورسالة حبّ وفرح في زمن الحرب والإرهاب.
نماذج أدبية وفنية لأمّهات على المستوى العالمي والعربي والمحلي عانت الحروب والويلات والفقر والفقد ـ لا مجال لذكر أمثلة أكثر ـ لكنّها صمدت وقاومت ونهضت في كلّ مرّة أقوى من السّابق ونجحت في تحقيق طموحاتها وأهدافها وكانت كما أرادت مثالاً يحتذى في الأمومة والفنّ والأدب.
نجوى صليبه