دروب العتمة..!
حسن حميد
فزعت حقاً وحزنت لأنني ما كنتُ أظنّ أن مثل هذا الأمر يحدث ونحن في زمن ثورة المعلوماتية، والأمر متعلّق بكاتب اسمه محمد نصّار، يكتب وينشر سروده الروائية والقصصية منذ منتصف عقد الثمانينيات من القرن العشرين المنصرم، وله ما يزيد على عشرين رواية ومجموعة قصصية مطبوعة، ونحن لا نعرف عن إبداعه شيئاً، وهو يكتب منذ أربعين سنة وأزيد، وله قامة أدبية سامقة، وحضور إبداعي مؤيّد بالكتابات النقدية المهمّة.
لم يُعرف هذا الكاتب، ولم تعرف كتاباته لأنه يعيش في قطاع غزة، ولأن القطاع محاصر، وفي عزلة فرضها المحتلّ الإسرائيلي البغيض، فلا يصعد المكتوب الفلسطيني إلى عالم الضوء ليكشف عن أذيات الإسرائيلي وممارساته القبيحة والأليمة التي طالت كلّ شيء: البيوت، والشوارع، والمدارس، والمشافي، ودور العبادة، والبراي، والحقول، والشواطئ، والأرواح، والآداب الفنون.
أكثر من عشرين رواية ومجموعة قصصية يكتبها محمد نصّار ولا أحد يعرف عنها شيئاً خارج قطاع غزة، أي جريمة ضد التعبير والحرية، والرأي، والفنون، والإبداع.. يقترفها العدو الصهيوني الذي يُشغل الإعلام العالمي بقصيدة أو قصة، أو سيرة ذاتية كتبها حاقد من حاقديه، وأي ثقافة إماتة، وتجاهل، ولامبالاة.. يحاول الإسرائيلي أن يوطّدها ليقول للعالم: لا إبداع، ولا كتابات، ولا فنون لدى الفلسطيني! وهو يعرف أنه كاذب، والدليل هنا هو هذا الصّبر الأيوبي الذي تحلّى به الأديب محمد نصّار طوال أربعين سنة، وهو يساهر كتابة عشرين رواية ومجموعة قصصية ليسرد لنا وللعالم رواية أبناء فلسطين الذين (كربن) الإسرائيلي كلّ شيء في حياتهم وأفسدها.. بما في ذلك الهواء.
في هذه الآونة، ومن خلال جائزة أدبية فلسطينية، نتعرف إلى إبداع محمد نصّار، ونتعرف إلى سيرته الذاتية الملأى بعافية الإبداع، وجمالية السّرد الأدبي، وبهاء السّرانية التي تكشف عن مكنون الحياة التي يعيشها حوالي مليوني نسمة في قطاع غزة المحاصر من العدو الإسرائيلي، وعن سيرورة العيش وطرائقه، وعن أحلام الغزييّن الهاتفة صباح مساء: موطني.. موطني!.
بلى رواية واحدة لـ محمد نصار هي (دروب العتمة) تحقّب للحياة الغزّية بكلّ ما فيها من عزيمة وإصرار وصبر وشجاعة من جهة، وما فيها من بطش وتوحش إسرائيلي من جهة أخرى؛ رواية واحدة هي (دروب العتمة) كانت كافية للكشف عن الأيدي الآثمة، والذهنيات السّود الكارهة، والتوغل الأعمى في العنصرية الإسرائيلية ضد أهلنا في القطاع الأشم الهاتفين: سنفتك الحياة التي تليق بنا افتكاكاً من يد الإسرائيلي الذي جعل قطاع غزة (مساحته 378 كم مربع) زنزانة للألم اليومي.
هذه الرواية (دروب العتمة) شبيهة برواية صمت البحر لـ فيركور (جان بروليه الفرنسي) التي كانت كافية وحدها، على الرغم من صفحاتها القليلة، لفضح ممارسات النازي الألماني حين احتلّ فرنسا في الحرب العالمية الثانية، ومازالت هذه الرواية، حتى هذا اليوم، من الروايات المهمّة التي تتحدث عن صبر الأهالي الفرنسيين أمام دموية الألمان وبطشهم آنذاك.
رواية (دروب العتمة) لـ محمد نصار، نشيد سردي مثقل بحمولة الأحزان، والمؤسيات، وحالات العماء التي طالت كلّ شيء، حتى الدروب، لأن العتمة ضريرة لا تميّز فضاءً من فضاء، ولأن شمعة واحدة تكفي كي توقد الأمل، وتبدي الدروب الذاهبة نحو الينابيع، والمروج، والبراري، والقرى، والمجد.. كيما تصير الحياة حياةً تليق بتضحيات أبناء القطاع العزيز.
هذه الرواية (دروب العتمة) شمعة نور وأزيد لأنها جهرت بالحديث المدهش عن صبر الغزيّين، مثلما جهرت بأحلامهم المنادية: الحرية الحرية، والبلاد البلاد.
Hasanhamid55@yahoo.com