النازيون الجدد.. عناوين جديدة لإستراتيجية أمريكية لمرحلة ما بعد أوكرانيا
البعث الأسبوعية- د.معن منيف سليمان
شجّعت الولايات المتحدة الأمريكية نمو المنظمات والأحزاب المتطرفة في أوروبا وفي أوكرانيا خاصة، حيث قدّمت لهذه المنظمات الدعم والرعاية المستمرّة ما جعلها تنمو وتتوسع إلى حدّ المشاركة في حكم البلاد وإدارتها، وهو ما يعد استثماراً جديداً في سبيل الحفاظ على مصالحها في هذا البلد المتاخم لحدود الخصم الروسي.
ولا يهم أمريكا مطلقاً، ما هي الأيديولوجية التي يعتنقها من ينفذ مصالحها، في أي مكان في العالم، وهذا ما يحصل في أوكرانيا، التي دعمت فيها منذ ما قبل العام 2014، أكثر الجماعات والأحزاب ذات الفكر القومي والنازية الجديدة الذين ترتكز أيديولوجيتهم على الترويج للكراهية وتفوّق العرق الأبيض، ومهاجمة الأقليات العرقية والإثنية، ويطمحون لإنشاء دولة فاشية، ما يُعيد إلى الذاكرة الأساليب التي اتّبعتها الاستخبارات الأمريكية في تجنيد وتسليح وتمويل العناصر المتطرفة “الارهابيين” في أفغانستان، وفرق الموت في أمريكا اللاتينية، كما هي الحال في أحدث نسخة من الإرهابيين، الذين تمّ تجنيدهم للقتال في سورية، وتدفق الآلاف منهم من أوروبا، عبر تركيا “حليفة أمريكا” التي فتحت حدودها مع سورية لعبور هؤلاء بحرية تامة.
إن تطور ظاهرة النازية الجديدة والمنظمات المرتبطة فكرياً بها تم من خلال رعاية مستمرة منذ عام 2004 حتى يومنا هذا، من قبل عدد من المؤسسات الرسمية وغير الرسمية في الولايات المتحدة الأمريكية، وشملت هذه الرعاية كافة أشكال الدعم بالمال والسلاح والتدريب والتجهيز في معسكرات خاصة أقيمت في أوكرانيا.
هذه العلاقة تفسر سبب معارضة أمريكا وأوكرانيا وعلى مدى أكثر من سبع سنوات من إصدار الجمعية العمومية للأمم المتحدة، قراراً يطالب بإدانة وتجريم كل من يمجّد رموز النازية ويدافع عن النازية الجديدة وتجلياتها الأخرى من منظمات متطرفة كحليقي الرؤوس وغيرها من حالات التمييز العرقي أو الإثني أو الديني.
إن الامتناع عن إدانة وتجريم ظاهرة النازية الجديدة وكل من يروج لأفكار التفوق العرقي والتمييز العنصري يؤكد أن هذا التحالف غير المقدس بين أطياف القوس العنصري ليس تحالفاً آنياً، بل هو تحالف أطراف منسجمة بالأفكار والموقف، وأن أحزاب هؤلاء الحلفاء يحملون الأساس الفكري والسياسي والاجتماعي نفسه.
إن مشروع واشنطن يتجلى بتحويل أوكرانيا إلى مقر ومنطلق للقوى العنصرية والمتطرفة في محيط جغرافي غربي وشرقي ضخم ستكون الشعوب الأوروبية ضحية لهذه السياسات الأمريكية وللساسة الغربيون الذين انخرطوا في هذا المشروع، فالإرهاب العابر للحدود والآن النازيون الجدد والقوميون ينضمون لهذا المشروع بقوة ودعم كبير، لتكون هذه هي العناوين الجديدة لأوروبا التي ستؤدي إلى انهيار التحالف الأوروبي ووصول هؤلاء القوميون الذين يتمتعون بأرضية خصبة في أوروبا، بما يوفر للأمريكي تشكيل كتلة دولية جديدة تحكمها النزعات العنصرية المنسجمة مع العنصرية الأمريكية.
ودأبت روسيا منذ سنوات على دعوة الدول الغربية إلى التحقيق في قضايا انتهاكات حقوق الإنسان والقتل خارج نطاق القانون وجرائم الحرب، التي ارتكبها القوميون الأوكرانيون الذين وصلوا إلى السلطة بعد أحداث عام 2014.
وأشارت موسكو إلى أن العديد من تلك الجرائم ارتكبها القوميون الأوكرانيون “النازيون الجدد” ضدّ الروس أو الناطقين بالروسية، وأن هدف روسيا يتلخص في حماية الأشخاص الذين تعرضوا على مدى ثمانية أعوام، إلى سوء المعاملة والإبادة الجماعية، من قبل نظام كييف، وأن العملية العسكرية تسعى لـ “اجتثاث النازية” من أوكرانيا.
لا يمكن فهم عوامل وأسباب تطور الأزمة في أوكرانيا، إلى حدّ الاشتباك العسكري المسلح بين الجيش الروسي والتشكيلات العسكرية الأوكرانية المختلفة، التي تشمل إلى جانب الجيش الأوكراني النظامي عدداً كبيراً من المنظمات شبه العسكرية على غرار كتيبة “أزوف والقطاع الأيمن” وغيرهما، التي ترتبط بأحزاب ومنظمات النازيين الجدد والقوميين المتطرفين دون إعادة تفكيك المشهد الأوكراني إلى عناصر أزمته الأساسية، وتحليل عوامل وأسباب أحد هذه العناصر وهو نمو وتطور ظاهرة النازية الجديدة في أوكرانيا ووصول ممثلي هذه المنظمات إلى مستوى الشريك الرئيس في إدارة شؤون البلد وفي الحكومة.
وتعدّ ميليشيا “آزوف” التي شكّلها الفاشي الأوكراني أندري بيلتسكي أهم واجهات اليمين القومي المتطرف في أوكرانيا. وتؤمن النسخة الأوكرانية من النازية بالتفوق البيولوجي للعرق الأبيض، لكنها في الوقت نفسه تنهل من أيديولوجية قومية استقلالية عن روسيا وبالتالي عدائية للأوكرانيين من أصول روسية.
وقد تم إدراج هذه الميليشيا ضمن كتائب الحرس الوطني الأوكراني؛ وهي ميليشيات يسيطر عليها متطرفون يمينيون ومتعاطفون مع النازيين الجدد، أسهمت في تدريب مدنيين على حمل السلاح في وقت سابق ليس ببعيد، استعداداً لهجوم عسكري روسي.
وقاتلت كتيبة آزوف إلى جانب الجيش الأوكراني شرقي البلاد عام 2014، ضدّ الانفصاليين الموالين لروسيا، وارتكبت عدّة جرائم في حق الناطقين بالروسية في أوكرانيا، كما وارتكبت تلك الكتيبة جرائم حرب مختلفة، تتراوح من نهب المدنيين إلى قتلهم واغتصابهم، وطردت المواطنين الموالين لروسيا من مدينة ماريوبول الاستراتيجية الساحلية واتخذتها مقراً لها، وقامت منظمة العفو الدولية، بالتحقيق في جرائمها ومع ذلك، ظلّت أعمالها المروعة دون عقاب.
ووثقت الخارجية الروسية العديد من جرائم القوميين، في كتاب من 80 صفحة، منذ بدء “الثورة الأوكرانية” في 2014، وبدأت السلطات الأوكرانية الجديدة في التعدي على حقوق الناس في التعبير عن آرائهم وكذلك حرية الصحافة، ونصب محاكم تفتيش واحتجاز للمتظاهرين والصحفيين ومنع ممثلي وسائل الإعلام الأجنبية من دخول البلد.
وقد أشار الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، إلى مقاتلي “آزوف”، عندما قال إن جزءاً من الهجوم الروسي الجاري حالياً، يهدف لـ”اجتثاث النازيين الجدد” من أوكرانيا، وحماية بلاده من “خطر داهم” يشكله “النازيون الجدد”، ومساعٍ أمريكية لتحويل أوكرانيا إلى “روسيا مضادة” و”خنجر” في يد واشنطن.
إن واشنطن في سبيل تحقيق أهدافها الخاصة، دعمت النازيين الجدد، في أوكرانيا. ففي عام 2015، تلقوا تدريبات سرية مكثفة بالولايات المتحدة الأمريكية، كما تلقوا تدريبات استخباراتية تحت إشراف وكالة CIA.
ولم يتوقف هذا الدعم عند حدود المنظمات النازية الأوكرانية المحلية، بل تعداها الآن إلى الدعوة البريطانية بتصريح صحفي مباشر من قبل وزيرة الخارجية البريطانية، إلى تشكيل فيلق دولي من المتطوعين الذين يرغبون في الانخراط في العمليات العسكرية في أوكرانيا إلى جانب المجموعات القومية المتطرفة وميليشيا المجموعات النازية الجديدة، بل وأعطت الموافقة والمباركة والضوء الأخضر لمواطني دول الاتحاد الأوروبي للانخراط في هذا الفيلق النازي والمتطرف.
ولقد أكدت وزارة الداخلية الألمانية أنّ لديها معلومات عن بعض النازيين الجدد الألمان الذين يقاتلون في أوكرانيا، ووزارة الدفاع الألمانية تتحدث عن تجهيز دفعات جديدة من الأسلحة لتسليمها إلى أوكرانيا.
وقبل ذلك، أعلنت وزارة الدفاع الروسية أن المرتزقة الأجانب، الذين وصلوا إلى أوكرانيا، يرتكبون أعمال تخريب ومداهمات لقوافل المعدات الروسية. كما أن النازيين الجدد في أوكرانيا يستخدمون المدنيين دروعاً بشرية، وقد احتجزوا آلاف الطلاب رهائن، وإن جميع هجمات المرتزقة الأجانب في أوكرانيا تنفذ بمساعدة أسلحة قدمها الغرب إلى المسلحين في أوكرانيا، مثل صواريخ جافلين (التي قدمتها الولايات المتحدة)، ونلو (قدّمتها بريطانيا) وستينغر.
كل هذا على أمل أن تتحوّل العملية العسكرية الروسية إلى حرب استنزاف طويلة الأمد للطرف الروسي، ضاربين بعرض الحائط الأثمان الباهظة التي دفعها وسيدفعها الشعب الأوكراني الذي لا ذنب له في هذه المؤامرة الغربية الدنيئة، والذي يعتبر خير مثال على مدى الانحطاط الذي وصل له العديد من القوى الدولية والدول العظمى في دعمهم لهؤلاء المجرمين.
إن مشروع واشنطن موجود مسبقاً لشن عدوان على روسيا الذي لا يقف عندها أبداً، بل سيتعداها لو كتب له النجاح لكل دول آسيا باتجاهاتها وتموضعها الاستراتيجي لينال من هذه الكتلة الجيواستراتيجية التي تشكل ثقلاً مؤثراً في الاقتصاد المتنوع الموارد.
وما زجّ واشنطن معظم دول العالم في حربٍ مع روسيا ودعمها للنازية والقوميون الجدد ليس سوى عناوين جديدة لاستراتيجية أمريكية لمرحلة ما بعد أوكرانيا، ونجاح هذا المشروع الأمريكي العنصري أم إخفاقه متعلق بنتائج العملية العسكرية الروسية، ولعل رفض واشنطن لمطالب روسيا وتبديد مخاوفها منذ بدء المفاوضات هدفه إدخال العالم في فوضى عالمية سيكون لها انعكاساتها على الدول الغربية خاصة كما ستتأثر بها كل دول العالم لحين طويل.