دراساتصحيفة البعث

أزمة أوكرانيا ومستقبل العلاقات الصينية- الأمريكية

علي اليوسف 

من الطبيعي أن تلقي أزمة أوكرانيا بظلالها على مجمل العلاقات الدولية، وتحديداً على العلاقات الصينية- الأمريكية، نتيجة الاصطفافات السياسية التي اتخذتها الأطراف جميعاً. ومنذ آذار 2020 بدأ مسار العلاقات بين الصين والولايات المتحدة يشهد تراجعاً كبيراً، وتحديداً عندما أطلق الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب على كوفيد19 “الفيروس الصيني”. الآن وبعد مرور عامين على هذا التوتر، والتعاون الروسي الصيني الوثيق، ورفض الصين العقوبات المفروضة على روسيا، لا يبدو أن هناك مؤشرات تدلّ على حدوث تعافٍ في العلاقات، ولهذا التنبؤ دلائل ملموسة على الأرض، فبعد أن عقد كبار المسؤولين الأمريكيين والصينيين اجتماعاً في تكساس آذار 2021، والقمة الافتراضية بين جو بايدن وشي جين بينغ في تشرين الثاني من العام نفسه، إلا أن ذلك لم يسفر عن التقدم المرجو لجهة خفض تصعيد التوترات.

ويقول الدكتور ديني روي، أستاذ العلوم السياسية بجامعة شيكاغو الأمريكية، وزميل مركز أبحاث الشرق والغرب الأمريكي، في تقرير نشرته مجلة “ناشيونال انتريست”: “هذا السلوك المتبادل ليس أمراً غير عادي، فالعلاقات الأمريكية الصينية في فترة ما بعد عهد ماوتسي تونغ اتبعت بشكل عام نمطاً دورياً، حيث كانت تحدث انتكاسات تتبعها فترات من التعافي”.

تاريخياً، هناك إجماع في الدولتين على أن الحفاظ على علاقة بنّاءة يستحق تحمّل القليل من التطورات المعاكسة، ولكن التعافي في الوقت الراهن أمر لا يمكن المراهنة عليه، لأن الظروف التي تؤثر على العلاقات الأمريكية الصينية تغيّرت بشكل كبير. في السابق كانت الولايات المتحدة تتمتع بميزة كبيرة بالنسبة للصين في القوة العسكرية والاقتصادية، لكن مع بداية تطبيق توجه دينغ شياو بين -مهندس الإصلاح الصيني الخاص بالسياسة الخارجية- فإن ذلك كان وقتاً مناسباً لتقوم الصين ببناء قوتها عن طريق التجارة والاستثمار، وتجنّب المواجهة ما لم تقم أمريكا بتهديد مصلحة صينية حيوية.

ومع تولي شي جين بينغ القيادة، تضاءل هذا الاختلاف في القوة بدرجة كبيرة. وعلى الرغم من أن الصين ليست أقوى عسكرياً من أمريكا، فإن الجيش الشعبي الصيني قويّ الآن بدرجة كافية لإلحاق خسائر فادحة بالقوات الأمريكية في أي سيناريو تحاول فيه القوات الأمريكية اختبار قوة الصينيين في المنطقة، كما أن الأهمية الاقتصادية الكبيرة للصين توفر لها ميزة استراتيجية.

وتستطيع بكين استخدام تجارتها كسلاح في دعم أهدافها في الخلافات السياسية، كما أن هناك حقيقة أن لدى الصين فرصة منطقية للاستحواذ على القيادة في تطوير التكنولوجيات المستقبلية مثل الذكاء الاصطناعي، وإنتاج الطاقة الخضراء، والأدوية المتقدمة. لذلك فإن اقتراب الصين من مستوى المنافس الندّ يعيد تشكيل العلاقات بين الدولتين، فواشنطن تعتبر الصين الآن خصماً، والتوتر الحاصل في منطقة آسيا والمحيط الهادئ، والأزمة في أوكرانيا، وتجنّب التعاون الذي قد يكون في مصلحة الوضع الاستراتيجي للصين أصبح أمراً يثير قلقاً ملحاً لدى أمريكا. وهذا النهج المعادي يحول دون أي عودة لذلك النوع التاريخي من العلاقات الذي كان سائداً، وعلاوة على ذلك، فإن الجو السياسي في الدولتين لا يرحب بأي عودة للوضع الطبيعي الثنائي القديم.

وبعد أن اتضحت ملامح سياسة الرئيس الأمريكي جو بايدن، والتي أظهر خلالها موقفاً متشدداً تجاه الصين كان أقرب إلى موقف الرئيس السابق دونالد ترامب، صدرت عن مركز “تريندز للبحوث والاستشارات” دراسة استشرفت مسارات العلاقات الأمريكية– الصينية. وتشير الدراسة التي حملت عنوان “فهم مسار سياسات بايدن تجاه الصين”، وأعدّها الدكتور تشينغ لي، وهو زميل غير مقيم وكبير الباحثين في مركز “جون إل ثورنتون” الصيني التابع لمعهد بروكينغز، إلى أن الصين، ورداً على ذلك النهج المتشدّد لإدارة جو بايدن، عززت من علاقاتها الدبلوماسية والاقتصادية والعسكرية مع كلّ من روسيا وإيران، مما أدى إلى توثيق العلاقات بين تلك الدول في حقبة ما بعد الحرب الباردة.

ولفتت الدراسة النظر إلى أن محاولات المسؤولين الأمريكيين النشطة لتشكيل جبهة موحدة لمواجهة سلوك الصين تشير إلى أن حرباً باردة جديدة ضد بكين باتت وشيكة، وكان أبرز مؤشراتها ذلك الحوار الأمني الرباعي الذي استضافه البيت الأبيض وجمع قادة كلّ من اليابان وأستراليا والهند معاً لأول مرة. كما سعى كبار المسؤولين الأمريكيين إلى تشكيل جبهة موحدة لمواجهة الصين، وهذا ما يفهم من زيارات وزير الخارجية الأمريكية أنتوني بلينكن ووزير الدفاع لويد أوستن إلى اليابان وكوريا الجنوبية، والاجتماعات التي عقدها الوزيران مع قادة الاتحاد الأوروبي وحلف شمال الأطلسي في بروكسل، وزيارة أوستن للهند، والتي تعكس جميعها الحاجة الأمريكية الملحة لبناء ذلك التحالف.

وتوضح الدراسة أنه ليس لدى القيادة الصينية أسباب كبيرة تدعو إلى القلق من فاعلية تحالف تقوده الولايات المتحدة ضدها على غرار ما حملته الحرب الباردة في السابق، فبكين تدرك تماماً أن بعض القادة في أوروبا وآسيا قد انتقدوا أو أعربوا عن تحفظاتهم بشأن ميل واشنطن لتشكيل كتلة شبيهة بالحرب الباردة، ولهذا فإن النظرة المستقبلية تجاه الصين في عدد كبير من بلدان العالم تختلف اختلافاً عميقاً عن نظيرتها في البلدان ذاتها تجاه الولايات المتحدة. فلا يبدو أن تلك الدول تنظر إلى الصين باعتبارها تمثل تهديداً أمنياً للسلام العالمي، ولا تنظر إلى جهود التواصل الاقتصادي الصينية، بما في ذلك مبادرة “الحزام والطريق”، على أنها دبلوماسية “متوحشة” أو “فخ لإغراق تلك الدول في الديون”.

وتخلص الدراسة إلى أن العلاقات بين واشنطن وبكين تتجه نحو مزيد من التوتر، وتستشهد بتصريح ثعلب السياسة الأمريكية هنري كيسنجر: “إن المنافسة اللانهائية بين أكبر قوتين اقتصاديتين في العالم قد تؤدي إلى تصعيد لا تُحمد عقباه وصراع لاحق أكثر خطورة من ذلك الذي وقع في حقبة الحرب الباردة”.