الصفحة الاخيرةصحيفة البعث

أين القصيدة؟

غالية خوجة 

لماذا يجد الإنسان السوري نفسه مع الشعر؟

تدور الروح باحثة عن الكلمة الجميلة، هذا ما يدركه العرب منذ أول بيت شعري دونته الرُقم الطينية قبل آلاف السنين، وهذا ما يجذب الإنسان السوري رغم ما مر ويمر به من ظروف، لأنه يجد الكلمة أملاً وبلسماً وحلاوة تطفئ مرارة الأيام، فيعود إلى نفسه وعائلته والحياة والعالم محلّقاً من جديد.

للمتلقي السوري ذائقة حساسة، رهيفة، تنتظر التعلّم من القصيدة كما تتعلّم من كافة مجالات الحياة وأحداثها وتقلباتها، وهذا مؤشر على صفاء النفس الداخلي، ومحاولة تجاوز العواصف والأمواج، لنصافح الشمس الآتية بطاقة حيوية وإيجابية تسهم في العطاء.

وها هي المهرجانات الشعرية تتفتّح مع شمس آذار لترنّ القصائد بين البراري، وتتفتّح على أغصان الزيتون واللوز، وتثمر في غابات القلوب، وتنعش المحبة من خلال تحليق عشاقها حولها ليتدفؤوا بكلماتها المرفرفة في كل مكان، فيلاحقونها رغم رذاذ المطر وبرودة الطقس وتقلبات الأشعة الصفراء، ليقبضوا على معانيها السابحة.

القصيدة المحلّقة لا تجلس ولا تقف مع شاعرها، ومحبوها يركضون معها وهم جالسون إلى المدار الذي تأخذهم إليه بدهشة تكتشف ذاتها وذواتهم والعالم، لأنها تختزل الكون بنقطة، كما يشير لذلك الشاعر الناقد الانكليزي “أرشيبالد ماكليش” في كتابه “الشعر والتجربة- ترجمة سلمى الخضراء الجيوسي”.

فكم قصيدة استطاعت أن تختزل بكلماتها ونقاطها ضمير النحن والأنا والأنت والأنتم والأنتنّ والهو والهي والعالم في مهرجاناتنا الشعرية المقامة في المحافظات السورية؟

شهد آذار مهرجانين شعريين في حلب الشهباء: الأول أقامه اتحاد الكتّاب العرب وشمل أرجاء سورية، والثاني أقامته مديرية الثقافة بحلب “ملتقى الشهباء الشعري بدورته الثانية”، وتميز المهرجانان بحيوية تكشف عن تعطش المتلقين للشعر، وتمييزهم من خلال ملامحهم المقروءة بين القصيدة التي تخطفهم من أنفسهم إلى روحها وفضاءاتها لتمنحهم السؤال المتجدد واللهفة المتتابعة دون انقطاع، فتركض أعماقهم مثل الطفل وراء القصيدة ورنينها في دواخلهم وأبعاد المحيط والفضاء والبراري، وكأنهم مسحورون بسماعهم لتراكيبها المختلفة التي يسمعونها لأول مرة وهي تشابك علائقها بطريقة غير مألوفة، فيتسلّقون معها الجبال، ويتزحلقون على الثلوج، ويطيرون مع الفراشات، وتزقزق أرواحهم مثل العصافير، ويغامرون مثل “أليس في بلاد العجائب”، ثم يتمددون على العشب بين الورود محدّقين في تلك السماء وما بعدها، ولا يعودون مع انتهاء القصيدة إلا باكتشافات جديدة وكأنهم غواصون عائدون بمراكبهم إلى الشاطئ، وهم فرحون باللآلئ التي حصدوها من أعماق القصيدة.

بينما تبدو ملامحهم شاحبة وهم يستمعون باهتمام لنصوص أخرى مشاركة في مهرجان شعري ما، معبّرين بصمت عن إحباط تلك الكلمات ومدى تصنيفها كخاطرة، أو رسالة حب، أو حكاية شعرية، أو حالة ذاتية، أو قصة مكتوبة بمظهر قصيدة، أو كخطاب سياسي، أو نص فوضوي، تائهين مع ذائقتهم حدّ الملل، فمنهم من ينسحب، ومنهم من يكمل على أمل أن المشاركة التالية تنقذهم من هذه الورطة.

المتلقي العربي عموماً، والسوري خصوصاً، يتمتع بحواس فطرية تستطيع التمييز بين الإبداع ومحاولات الكتابة، والجميل أن المهرجانات تشكّل لوحة فسيفسائية من مختلف التجارب الشابة والعريقة، وتفسح المجال لكافة النصوص التقليدية، والرومانسية، والكلاسيكية، والحداثية، وما بعد الحداثة، والسؤال: لماذا أيها “الشعراء” الأعزاء لا تجعلون نصوصكم مثقفة، لامعة بالتشويق والدهشة والسؤال، متناغمة مع مخيلة الكلمة والمعنى والمتلقي والقارئ والحياة لتضيف ضوءاً جديداً موقناً بأن المتلقي شريك واع مبدع تجيبك أعماقه عن حالتك وقصيدتك وحالته وما أوصلته إليه بكلماتك، كما تجيبك ملامحه الصامتة العاكسة لملامحه الناطقة تماماً؟