حسين الصعب.. قهوجي القلعة الجوال
البعث الأسبوعية-غالية خوجة
رائحة الثلج الذي لم يصل لحلب تنتشر نقية بألوان الورود في نهار شتوي يفيض بالحيوية، وتختلط أشعة شمسه المختبئة بين الغيوم برائحة أزمنة ما زالت تمرّ معنا بين أزقة المدينة القديمة المؤدية من خان الوزير إلى سوق الزرب وهو يظلل العابرين بسقفه المقنطر بينما رائحة الحطب فترشدنا إلى لهب يجتمع حوله بعض الرجال والشباب وهم يتدفأون بنار جميلة ويصنعون على جمرها القهوة.
رائحة القهوة تنتشر وهي تغني أنشودتها الأزلية التي كانت أمي ترددها بعد حكاية ملغزة وهادفة وملفتة للذكاء والآداب بين ملك يطلب من وزيره أن يعرف ماذا تقول القهوة وهي تغلي، على أن يحضر له الجواب خلال ثلاثة أيام، فيلجأ الوزير للسفر في البلاد بحثاً عن هذه الأنشودة التي يجد جوابها عند ابنة الفلاح العجوز، فيسمعها تنشد من خلف الستارة وهي تصنع القهوة لأبيها وضيفه الذي لا يعلمان بأنه الوزير: “كل السبب مني وبكل وادي جريت، وكل عرق نبت مني بالنار انكويت”، فتصطدم رائحة القهوة برائحة الذكريات ونحن نصل إلى آخر قنطرة لنطل على قلعة حلب وأهلها العاشقين الذين لا يستطيعون فراقها بسبب البرودة أو الحرارة أو الفصول.
محيط القلعة يستعيد حضوره وتصدح مطاعمه ومقاهيه بصوت صباح فخري والقدود الحلبية، بينما يتقدم نحونا رجل بلباسه الفلكلوري الحلبي وهو يغني ويصبّ القهوة ويقدمها للناس، وعندما اقترب من جلستنا، سألته عن اسمه، فأجابني: حسيب الصعب، أبو عبدو، واسترسل: هذا اللون المحلي أحبه منذ كنت طفلاً، ووعيت عليه، فأبي يلبس “القنباز والشاشية والبريم”، وكنت أذهب معه للأعراس وأحفظ الطقوس وأشاركه في أعماله التي أحبها مثله تماماً.
وتابع بسعادة: جدي كان ناظماً للأغاني الشعبية، وأبي صوته جميل، ونشأت وأنا أحب هذه البيئة، ويبدو أنني بالوراثة أتمتع بصوت مناسب، فاخترت هذا اللون الحلبي وهذه الشخصية التي تلفت الجميع في مدينة حلب القديمة، خصوصاً، هنا، في منطقة أقدم قلعة في العالم.
ثم صبّ فنجاناً من القهوة وبدأ يغني:”اسقِ العطاش تكرماً”.
القهوة كرم والعطاء كرم
أمّا كيف جاءته فكرة الشخصية الفلكلورية ليبيع القهوة بهذه الطريقة الخاصة؟
فأخبرنا بطريقته العفوية: الحرب الإرهابية دمرت فيما دمرت الآثار والبيوت والمصانع، ومنها ورشتي وبيتي، ولم أجد في هذه الظروف الصعبة سوى أن أعود من ذاكرتي مع شخصيتي التي أحبها، فأتيت مع دلتي لبيع القهوة، وشجعني الناس، ونلت استحسان وتشجيع الجهات الرسمية والوفود، والجميع أحبّ تواجدي، ولا أقف أمام من يطلب القهوة لآخذ منه المال، بل أنا وهو نعلم بأن القهوة كرم والعطاء كرم.
وأضاف بثقة العارف: أنظر إلى الشخصية التي أعطيها القهوة، وأقدم لها الفنجان مع أغنية مناسبة، لأن الناس شخصيات مختلفة، ولكل منها ذوق وأسلوب، فالسيدة الكبيرة تستحق التقدير كما الرجل العجوز، والشاب يستحق الكرم، والفتاة يناسبها الأدب، ولا بد من الأدب والكرم مع القهوة لأن الرقي يحتاج لفن التعامل الأصيل في مكان عتيق أصيل.
القهوة والغدر لا يلتقيان
لكن، لماذا الخنجر في هذا اللباس؟
أجاب: اللباس فلكلوري من ذاكرة حلب، ويتألف من “الكبوت-ملتان”، و”صدرية”، و”شال” على الزنار، وخنجر يوجه لمن يغدر، وسبحة على الخنجر، و”الشملة” على الرأس، و”السروال” عربي عريق، إضافة إلى دلة القهوة العربية، ودائماً أرحب بالضيوف والزوار والمجموعات، وأحضر الافتتاحات في المدينة القديمة، تلك التي يحضرها السيد محافظ حلب، ووفود الوزراء، ووفود الجمعيات والطلبة، كما أشارك في المعارض والمهرجانات.
لن أغادر
المشهد متحرك حول القلعة يدور كما يدور شريط سينمائي لا يعرف التوقف، فتتبدل الشخوص الذاهبة والآتية، وتتغير الوجوه التي تمنحك آلامها وآمالها، وترفرف البالونات الملونة والمضيئة هنا وهناك، ويلهو الصبية بدراجاتهم الهوائية، وتتقدم إحدى العائلات من بائع الذرة المسلوقة والفول، وتزدحم عربة البائع المتجول بالناس، وتموء القطط قريباً من مطعم الشاورما والبطاطا، وتقترب شخصيات أخرى لتطلب من الناس، بينما يتلفت بائع القهوة محدقاً في الداخلين إلى أحد المقاهي المصفوفة حول القلعة، ويضيف: جاءتني عروض كثيرة خارج سورية، لكنني رفضتها، فأنا أجد نفسي هنا، حول القلعة، بين الناس، ثم قال بملامح صارمة: لأننا إذا لم نحافظ على وطننا فمن سيحافظ عليه؟ ولماذا نذهب إلى الغربة والذل؟ أمن أجل المال؟ بينما هذه الإطلالة على القلعة أغلى من أموال العالم لو اجتمعت.
بالنار اكتويت
شكرت بائع القهوة الذي غادرني وهو يغني: “قدك المياس يا عمري”، لكنني نسيت أن أسأله: ماذا تغني القهوة وهي تغلي؟ ورأيته متجهاً إلى الجالسين على الطاولة القريبة ليقدم لهم القهوة العابقة برائحة المكان والشتاءات المتراكمة بين لهب الحطب الذي يدفئ الأزقة العتيقة، وبين الغيوم المتماوجة بلوحات سوريالية بيضاء وزرقاء ولازوردية، وبين العلم العربي السوري وهو يرفرف شامخاً على درجات الباب الرئيسي للقلعة التي ستظل تنشد: “حماة الديار عليكم سلام، أبت أن تذلّ النفوس الكرام”.