مقاومة لا تهدأ حتى تتقد من جديد!!
بسام هاشم
مرة أخرى خلال قرابة الشهر، لا يتردد التاريخ في أن يصحح نفسه: المرة الأولى كانت في أوكرانيا، أما الثانية فكانت يوم الأحد الماضي في الخضيرة، عندما فتح فلسطينيان من “عرب الـ 1948″، من مدينة أم الفحم، النار على الجنود الإسرائيليين في محطّة حافلات في شارع هربرت صموئيل – كما يسمى – قبل أن يشتبكا بالسلاح مع قوّة من “المستعربين”، ويستشهدا.
العملية التي اخترقت احتفالية مؤتمر النقب، كبصقة ملء الوجه، وسكبت ماء بارداً على أكثر من عام ونصف من “الجهد المتواصل والمستمر” الذي بذلته واشنطن لـ “تثبيت” اتفاقات أبراهام، جاءت لتكشف أن أخطر التحديات (“التهديدات”) الأمنية الإسرائيلية إنما “تتجمع” في “الداخل”، وأن خطوط التماس في طريقها لتصبح ما وراء “الخط الأخضر”، رغم كل ما مر على الفلسطينيين والعرب من حروب إبادة وحملات تهجير ومشاريع اقتلاع وقتل سياسي وإلغاء ذاكرة وتزوير للتاريخ.. ومبادرات تطبيع منظم وعشوائي يتأكد اليوم أنه – التطبيع – الابن الشرعي للخيانة والتواطؤ القديم الذي مكّن قبل سبعين عاماً من تسهيل اغتصاب فلسطين، ولكنه اليوم أعجز عن أن يترك للاحتلال إمكانية التمتع بصفة الأمر الواقع أو المقبول.. إن “إسرائيل” التي عملت إدارتا ترامب وبايدن، خاصة، وبحماسة منقطعة النظير، لدمجها في المحيط “الإقليمي”، والاصطفاف مع الملكيات العربية في تحالفات همايونية، اقتصادية وأمنية وعسكرية، وأدمنتا على ترتيب كل أشكال الاجتماعات والمنتديات والاتفاقات، ولم تبخلا حتى بالاعتراف لها بالقدس عاصمة، وبنقل السفارة، وبالقبول بقراراتها في الضم، لإنجاز مهمة “الدمج” بأسرع ما يمكن، تجد لزاماً عليها اليوم أن تمعن النظر إلى الخلف.. الخلف الأمني والتاريخي!! ولن تستطيع أوامر الاعتقال الإدارية، ولا مراقبة مواقع وحسابات التواصل الاجتماعي، ولا “الأسرلة”، ولا التهويد، ولا خطط “الاستيعاب المنظم”، ولا إعطاء متأسلمين إخوانيين مهمة قيادة الحركة الفلسطينية في الداخل، ولا حتى التسهيلات التي من شأنها أن تخفّض حدّة التوتّر في البلدات والمدن العربية، أن تغطي و تكبح أو تهدئ الفعل المقاوم الذي يسجل تحولاً نوعياً وتاريخياً.
والحقيقة فإن الشرق الأوسط يطفو على ظهر الصفيحة الجغرافية الأشد انزياحاً وحركية في العالم القديم والحديث.. الصفيحة التي ستحدد اليوم مستقبل العالم لمراحل تاريخية مقبلة. ولن يكون من الإفراط القول بأن مآل الصراع العربي الإسرائيلي سيعكس، على نحو كبير، واقع وطبيعة التوازنات العالمية المقبلة، بل ولربما كان النظام العالمي الجديد مشتقاً مباشرة من التوضعات الاستراتيجية أو المرحلية للمعركة القائمة اليوم بين تحالفين اخترقا كل المستويات، وعبرا كل المحرمات، وتجاوزا كل الخطوط الحمر، في المنطقة، في المواجهة الأخيرة التي بدأت أوائل العام 2011. ومن يمعن النظر قليلاً، لابد سيكتشف إن المسافة السياسية بين مختلف بؤر التوتر أو التفجير العالمية وبين أزمات واستعصاءات الشرق الأوسط أقصر من أن تقاس كمياً؛ ولربما كان هذا الترابط كامناً في حقيقة أن صراع الشرق الأوسط إنما ينهض أساساً على أبعاد إنسانية وقارية حضارية، بمعنى أن مسألة احتلال الأرض قد لا تعدو كونها رأس جبل الجليد الذي يرتفع فوق طبقات متراكمة من صراعات أخرى أخلاقية وثقافية وحضارية، وصراعات على الدور والوجود والهوية، ولربما على نهاية العالم. وبهذا المعنى، نفهم اليوم كيف تعود العناصر الأساسية للصراع للاحتشاد من جديد، قادمة من عمق التاريخ ومتسللة عبر الأزمنة.. ترفع الغبار عن الماضي، وتحفر في عمق الألم، وتعطي للجرح النرجسي طزاجته ويفاعته، بحيث نعيش القضية الفلسطينية كما لو أنها ابنة البارحة، وتتصورها الأجيال الصاعدة كما لو أنها قضيتها، نصرها أو هزيمتها، الشخصية.
يتحرك الصراع العربي الإسرائيلي اليوم، والقضية الفلسطينية في أساسه، وسط معطيات مختلفة. فالعالم العربي يعيش لحظة من وعي الذات على خلفية الانهيارات والكوارث الدموية التي خلّفها الربيع الإخواني الوهابي بقيادة أمريكية أطلسية.. لحظة كان من المروع خلالها أن نرى كل هذا الكم من ازدواج المعايير والكذب والتضليل والنفاق والتآمر والإجرام الغربي بحق الشعوب العربية، وكيف تم استخدام الرابطة الدينية كقناع للتستر على إحياء مطامع العثمانية المنبثقة من رحم النفس الاستعماري، وكيف تم استغلال حتى الثروات العربية لإفقار شعوبها، وضرب مجتمعاتها، وتقسيمها من الداخل، وحتى بث نوع من العنصرية بين أبناء الشعب الواحد بالاستناد إلى دعاوى التفوق القطري أو المناطقي. ولقد رأينا كيف استخدم المال الخليجي لتدمير بلدان محددة في محاولة لإخضاعها وكسر إرادتها الوطنية، وكيف تخاض حروب التجويع ضد بلدان فيما تنهض منشآت الترفيه والتغريب.
“كله شيء زائل.. كل شيء باطل”.. عدا هذه المقاومة التي لا تهدأ حتى تتقد من جديد!!