نهلة السوسو.. لم تجلس في برجها العاجي وانحازت لهموم الوطن
تلخصُ الكلمة التي زيّنت الغلاف الأخير لكتاب “جداريات الشمس”، وهي للشاعر عاطف أبو بكر سفير، مسيرة الكاتبة نهلة السوسو التي لم تجلس في برجها العاجي حين كان الوطن يغرق بالدم، بل انحازت لهمومه وتداخلت كلماتُها مع المقاتلين في ساحة المعركة، فقدمت توثيقاً ليومياتها في الحرب التي جمعتها في هذا الكتاب الذي احتفى اتحاد الكتّاب العرب – فرع دمشق مؤخراً بكاتبته أديبةً وصحفيةً من خلال ندوة قدمها وأعدّ لها الإعلامي ملهم الصالح، وبمشاركة د. ريما دياب، وعفراء هدبا مديرة دار دلمون. وبدا من خلال هذا الاحتفاء أن العمل الصحفي الذي يقوم على التقصي والبحث وشدة الملاحظة الذي برعت به قد طغى على ما كتبته في سنوات الحرب.
جداريات الشمس
السوسو بيّنت في حديثها للحضور أنها قبل الحرب كانت معروفة بشغفها الشديد بالإعلام وبمشاكستها، وأنه منذ لحظة استشهاد نضال جنود شعرتْ أن هناك مفترق طرق في حياتها، فأقلعتْ عن قراءة الروايات والقصص والمجلات وبدأت تستمع إلى قصص الناس المروّعة عن الحرب، فبدأت تقرأ الأرض التي تعيش عليها بعينٍ أخرى، خاصة وأنها عاشت الكثير من هذه القصص، وكانت شاهدة على تلك التضحيات التي قدّمها جنود الجيش العربي السوري، وقد أتاح لها الظرف التعرف على بعض جنودنا الذين عرّفوها على شخصياتٍ من لحمٍ ودم سردوا لها بعضاً من قصصهم التي لا يمكن أن يتخيّلها عاقل، وضمّها كتاب “جداريات الشمس”، الصادر عام 2018 عن دار دلمون، الذي جمعت فيه زواياها الأسبوعية التي كانت تكتبها خلال فترة الحرب في جريدة “تشرين”، ورصدت فيه بعضاً من وقائع شاهدتها أو سمعت بها منذ بدء المؤامرة الكبرى على سورية، وكان أبطالها أشخاصاً عاديين دافعوا عن بلدهم، مشيرة إلى أنها تعلّمت الكثير من أمهات الشهداء اللواتي فتحن لها دروباً لم تكن تعرفها.
صورة الغلاف
وتحدّثت عفراء هدبا عن قصة نشرها لهذا الكتاب، موضحة أنها كانت ملازمة لنهلة السوسو بحكم صداقتهما، وكانت تقرأ زواياها قبل نشرها في الجريدة، وبعد فترة زمنية من نشرها لهذه الزوايا طرحتْ عليها نشرَها في كتاب، وفي البداية لم ترُق الفكرة لها، ولكن بعد إلحاح وافقتْ وتمّ اختيار الزوايا التي استلهمتها من تضحيات وقصص جنودنا، وهي زوايا كانت تكتبها بأسلوبها الرشيق وصدق مشاعرها بشكلٍ أسبوعي في جريدة “تشرين”، مبينة أن السوسو كانت تكتب في فترة الحرب وهي منذ أول لحظة من بداية الحرب وحتى اليوم لم يتزعزع إيمانها بأن النصر سيكون حليفنا رغم كل الظروف القاسية التي مرّت بها بلادنا، منوهة كذلك بقصة الصورة التي زيّنت الغلاف، وهي عبارة عن تقرير طبي كان موجوداً في جيب أحد جنودنا الذين استُشهدوا بعد أن اخترقت إحدى الطلقات محفظته، وكان عائداً من إجازة مرضية ويحمل في جيبه التقرير الطبي الذي امتزج بدمه، مشيرة إلى أن السوسو من الداعمين لدار النشر التي تأسّست في ذروة الحرب للتأكيد على ضرورة وأهمية ما يجب أن يقوم به كل فرد منا اتجاه وطنه إلى جانب الجيش العربي السوري على الجبهات من خلال الثقافة وتوعية وبناء الإنسان في ظل التضليل الإعلامي.
طقوس موت وهمي
وقدّمت د. ريما دياب قراءة نقدية للمجموعة القصصية “طقوس موت وهمي” للكاتبة السوسو، الصادرة عام 1995، واحتوت على سبع قصص نوّعت الكاتبة في عرضها وفي بنائها، وكانت تعتمد تقنيات عديدة مما أبعد المجموعة عن الرتابة والملل في عرض القصص، ففي كل قصة كانت هناك صور مغايرة للواقع رسمتها بقلبها وروحها، معتمدة على ألفاظ وتراكيب من بيئة واقعية، منوعة فيها بأسلوب الحوار ما بين المركب والرمز، مع استرجاع الأحداث في جو من التفاعل والانسجام، وأكدت د. دياب أن الحوار لم يكن دخيلاً في القصص، وكان سلساً ومناسباً للشخصيات، وكان من أهم الآليات التي ظهرت في قصصها وأسهمت في بناء تشكيلها السردي إلى جانب اهتمامها الكبير بالوصف دون أن تغفل عنصر التشويق، وقد عمدت إلى سرد الأحداث المتنامية في القصص من خلال تجارب حياتية وقصص واقعية مزجت بين الواقع والخيال ضمن حبكة شديدة الترابط، مبينة أن طرق البناء كانت في أغلبها تقليدية، مستعينة ببعض التقنيات والأساليب كتيار اللاشعور والمناجاة، أما الشخصيات والأحداث فقد وظّفت لخدمة المعنى، كما تناولت دياب بالتحليل ثلاث قصص من المجموعة.
شخصيات روائية
وأوضح الشاعر توفيق أحمد نائب رئيس اتحاد الكتّاب العرب أنه تعرّف على السيدة السوسو في العام 1986، حين كان يتدرّب على يد الإعلامي طالب يعقوب في إذاعة دمشق، وكان من أشد المعجبين بها، مذكّراً ببرامجها الثقافية مثل “شخصيات روائية” حين حوّلت أكثر من 300 رواية إلى برنامج بمدّة ثلاثة أرباع الساعة، وهو عمل أدبي وإعلامي في الوقت نفسه، وواحد من عشرات البرامج التي قدّمتها.
شخصية وطنية
وبيّنت نهلة كامل في مداخلة لها أن نهلة السوسو شخصية وطنية دون منازع، وقامة من قامات الصحافة والأدب في سورية، وقد رفعتْ من مستوى الصحفيين حين اختصرت الوجدان واللغة الصحفية والثقافة الأدبية في مهنة واحدة، وكانت صحفية كبيرة في زمن وجود تيارات فكرية عالمية في سورية، كما أن أدبها لم يكن أقل عمقاً من شخصيتها ومهنيتها الصحفية ومتابعتها، فجمعت بين الصحافة والأدب الغنيّ بالثقافة، ونجحت في أن تحجز مكاناً خاصاً بها، وما زالت محافظةً عليه.
زوايا توثيقية
وأشار الإعلامي ملهم الصالح إلى أن “جداريات الشمس” زوايا أسبوعية تطلُّ على الأدب وتُعتبر نصوصاً وثائقية تؤرّخ يوميات الحرب، رغم أن معظمها كان دون تاريخ، وهي نصوص لا تتحدث فقط عن بطولات الجيش العربي السوري وأم الشهيد ومكانتها، بل تناولتْ فيها تاريخنا، وفي بعضها استحضرت روايات بعينها لتأخذنا إلى الواقع السوري بلغة فارقة وتراكيب وصيغ صحيحة، مشيراً إلى طريقتها الرائعة في الوصف في كتاباتها الصحفية والأدبية واعتمادها دائماً على موقف يفجّر الذاكرة لديها لتتحدث عن الحاضر، مختارة معظم بطلاتها من الريف.
واختتم الاحتفال بكلمة لرئيس اتحاد الكتّاب العرب د. محمد الحوراني الذي تحدث عن التحديات التي واجهت نهلة السوسو والظروف الصعبة التي عاشتها، وقد كان بيتها لا يبعد سوى أمتار عن الإرهابيين، ومع هذا ظلّت تكتب زوايا ليست رمادية ولا مواربة بل فيها كلّ الانتماء للوطن.
أمينة عباس