صباح فخري الفنان الذي يستحق أن نقول إننا عشنا في زمنه
اسمه صبحي أبو قوس، وهو من أسرة قدمت من حمص في غابر الأزمان، وكان أهله يندهون له باسم صباح، من مواليد مدينة حلب عام 1933، تربى ونشأ في المدينة القديمة، في حي القصيلة، في الدار العربية الكبيرة، وعندما غنى أوّل مرّة انتبهت إليه إحدى الجارات، وكانت تزورهم وتجلس مع أمّه وأخواته وعدد آخر من الجارات، قالت: صوت من هذا؟، فأجابها، ورفع أصبعه كمن ارتكب ذنباً “أنا”، قالت له: تعال إلى هنا، ما اسمك، قال: صباح، فقالت: يا صباح الخير، وأخذته المرأة بين ذراعيها، قائلة.. تعال إليّ كلّ يوم كي أعلمك القول والموّال، إنّ صوتك جميل، وجاءها الصبي، وعلمته، واستمعت إليه، وجهته نحو أصول الغناء وأداء المواويل، وعندما كبُر قليلاً، كان قد حفظ كثيراً من الموشحات والقدود.
في عام 1949، جاء إلى مدينة حلب عازف الكمان الذي كان يرافق أم كلثوم، سامي الشوّا، وتعرّف عليه واستمع إليه، فأعجب بصوته، وطلب منه أن يذهب معه إلى مصر ليدربه، ومن هناك يكون الانطلاق، لكن الفكرة لم تعجب أم صباح، التي كانت ترافقه في جولاته الفنية داخل سورية، بسبب صغر سنه، وفي تلك الأيام أسس فخري البارودي “النادي الموسيقي الشرقي” وقد أشرف على المعهد لمدّة عامين، كما عمل على تكريسه لإحياء الأعمال التراثية كالموشحات والقدود وفن رقص السماح والأدوار. وفي حفل الافتتاح حضر رئيس الجمهورية شكري القوتلي وغنى صباح بين يديه، وأجاد، حتى صرخ الرئيس عدة مرات: الله.. الله.. وعندما انتهى الحفل، طلبه الرئيس، فجاء إلى الغرفة التي كان فيها، وعند ذلك أسمعه سامي الشوّا على نغمات الكمان صوت صباح، فأعجب الرئيس بذلك إعجاباً شديداً، حتى إنه طلب من فخري البارودي تسجيله في المعهد وأن يرافقه سامي الشوّا في خطوات عدة حفلات أقيمت في القصر الجمهوري بدمشق، وهكذا أصبح صباح طالباً نظامياً في المعهد الموسيقي، زد على ذلك أنه توظف في الإذاعة.
ثم عاد إلى حلب بعد أن تخرج من المعهد، وتوقف عن الغناء، بناء على نصيحة أستاذه عزيز غنام، ففي فترة البلوغ يجب أن يحافظ الإنسان الذي يغني على صوته، كيلا يتخرب، عليه أن يصمت نهائياً، فلا يتحدث إلا الكلام الضروري، وقد اكتسب صباح هذه العادة، فهو حتى الآن لا يتكلم إلا الكلام الضروري والمناسب، وقد أعطاه فخري البارودي اسمه، فصار صباح فخري بعد أن كان صباح أبو قوس.
خلال هذه الفترة راح يدرس في المعهد العربي الإسلامي، إلى أن حصّل على شهادة، وأصبح معلماً في إحدى المدارس الابتدائية لسنة ونصف، كمعلم وكيل، ولما أحسّ باستقرار صوته عاد إلى الغناء، ثم تفرّغ للحفلات، وعندما افتتح التلفزيون السوري، كان صباح من أهمّ المغنين فيه، وأهم الملحنين، وقد لحّن في بداية رحلته أغنية: “يا رايحين بيت الله”، ثم تتابعت ألحانه.. وفي أثناء ذلك، وكان لا يزال يريد تحقيق المزيد من الشهرة، تصادف أن شارك مع الفنانة صباح في برنامج تلفزيوني، كان البرنامج يحمل اسم “خيمة حمّاد” وكانت صباح في قمة شهرتها، وقد قالت له بعد انتهاء البرنامج: لماذا لا تذهب إلى بيروت، ومنها تنطلق إلى من يعرف قيمتك الفنية، ويقدّر صوتك، فأجابها مبتسماً إنّه لا يستطيع أن يترك حلب.. وكذلك فعلت المطربة نجاح سلام طالبة منه أن يترك حلب وينطلق عبر الإذاعة اللبنانية.
يقول صباح فخري حول إحياء الموشحات والأدوار والقدود القديمة، بأنّه فخور بتعلقه بهذا الإرث الغنائي، وقدّمه بإحساسه الخاص، وهو يعتقد بأنّه استوعب بحور الشعر العربي، وأعطى شيئاً جديداً ضمن مجال التنوع في الإيقاعات، ومن ثم يعمل على إعادة صياغتها وإخراجها وتقديمها بما يتناسب مع روح العصر.. إنه ينوع في الأداء، ففي كلّ حفلة يغني الأغنية بطريقة جديدة، تناسب الجمهور أو تناسب الشبان الذين هم جمهور حفلاته، إنه يعرّف كيف يشدّ الناس إليه، ويعرّف كيف يغوص في داخلهم، وهو حين يغني يدرس حالات المستمعين إلى فنّه، كي يصل إلى المعاني والألحان القريبة إلى هذا الجمهور.
صباح فخري يبحث عن روح الموسيقا، وروح الفن، شق طريقه إلى الشهرة، تعب كثيراً حتى وصلت إليه، إنه يقول لك: “أنا ما زلت أدرس وأتعلم، فالغناء والفن بحاجة إلى متابعة ودأب”. إنّ القدود والأدوار والموشحات التي أعاد إحياءها طوال مسيرته جعلتنا ننتشي ونعيش بألق سحرها وجمالها، لقد أيقظ فينا روح الشباب والطرب، وغناؤه إلى الآن هو الأكثر حداثة وإنّ ارتكز على الايقاعات القديمة، وذلك لأنه خارج عن المألوف، ويمتلك القدرة على الاستمرار والخلود.
في حلب الآن معهد غنائي موسيقي، يديره الفنان قدري دلال، لم يغلق أبوابه كلّ فترة الحرب، وما جرته على البلد، إنّه معهد لصباح فخري، وهو من يموله ويشرف عليه، وهذا المعهد يعيد للمدينة الأجواء التراثية الموسيقية والغنائية، وهذا المعهد نافذة فنية تطلّ على المواهب الشابة التي بحاجة إلى من يشجعها ويعتني بها، ويأخذ بيدها لأنها هي التي ستحمل معها الفن الأصيل، وهو سيعرف الناس على التراث الحضاري لهذه المدينة المعرضة للتشويه والضياع.
فيصل خرتش