صفوان إبراهيم: املؤوا قلوبكم بالمحبة
تسترق أذناه حكايا الموجوعين من كل البيوت والشوارع والتجمعات، يكتب من الناس وإليهم، كاشفاً عن بعض الأشياء المبهمة في حياتهم، يبلسم بكلماته جروحهم، فكيف إن كان الكاتب الذي يستسهل الرواية ويستسيغها أكثر من القصة، ويمنحها بصمته الأدبية أحد رجال الجيش العربي السوري الذي يسترخص دمه وروحه فداء لوطنه وأهله الطيبين؟ حققت رواياته قبولاً كبيراً لدى قرائه ومتابعيه خلال فترة وجيزة، ونال العديد من الجوائز المحلية والدولية إنه الأديب والكاتب صفوان إبراهيم الذي خصته “البعث” بهذا الحوار.
نلت جائزة الدولة التشجيعية.. ما الذي يعنيه لك هذا التكريم؟.
أنا جُد سعيد، وتكاد كلمة “سعيد” لا تكفي لوصف ما يعتريني من شعور ونشوة، ولاسيما أنني نلتها بعد سنوات قصيرة جداً قياساً لعدد السنوات التي يحتاجها الأدباء لنيل مثل هذه الجائزة.. سعيد لثبات يقيني بأن عيون دمشق ترى بوضوح تام كلّ الذين يبذلون قصارى جهدهم في سبيل حماية حضارتها من التشوّه والخراب، وبأن الحرب لم تستطع بكل ما تملك من قوة غاشمة أن تشوش هذه الرؤية.
متى بدأت الكتابة.. وما الأسباب التي جعلتك كاتباً وأديباً؟.
بدأت الكتابة في عام 2013، وذلك بعد استشهاد أخي “حيان”، في مدينة الرقة الغالية، والمتاجرة بجثمانه الطاهر ما بين ألوية ما سُمّي “الجيش الحر” و”جبهة النصرة”. ثمة أسئلة كثيرة طرحتها على نفسي آنذاك، وكان أولها: ما الذي يدفع شخصاً ما لقتل شاب مسؤول عن أمنه وأمانه؟ أن يقتل وأن يحرق ويسرق، أو يرهب الآمنين دون وازع ديني أو أخلاقي؟!.. أدركت أن القاتل مسلوب القرار ومخدوع، ولذلك سامحتُه، ولكن أسامح فكره المسلوب.. وهذا يعني أنني لن أسعى للانتقام من فكره بإطلاق النار على رأسه، وإنما إلى تحرير فكره من شر النفاثات التي نفثت أحقادها وظلامها فيه.
كانت أول كتاباتي عبارة عن مذكرات تحكي قصتي مع أهلي، وبالتحديد مع أخي الشهيد ليعرف أولادي وأولاد إخوتي لماذا استشهد دفاعاً عن الرقة، ومن ثم كتبت رواية “وصايا من مشفى المجانين”، مستلهماً الحصار الذي عشته في مطار كويرس، وتتالت بعدها الروايات بحسب الأحداث التي كانت تجري في بلدي الحبيب، والتي هزّت كياني وفتتته، ولم أكن قادراً على تجميع ما تتطاير منه إلا بكتابة رواية تحتوي مشاعري وتعيدني إلى سيرتي الأولى.
في رواية “نداء الأرواح” تطرقت إلى خلل العلاقة بين الأبناء والأهل، إلى أي مدى لامست الواقع؟.
هذا السؤال يُحسب لكِ، لم أتوقَع أن يسألني أحد هذا السؤال، إنه مؤلم والأكثر منه إيلاماً أنه حقيقة، وهذا ما سمّيته بالتشوهات المجتمعية.. أنا لست مختصاً في علم الاجتماع حتى أبرّر بأن الحرب أو غيرها كانت أحد أسباب هذه التشوهات، ما يعنيني أنني ألامسها بشكل مباشر، وأحاول الإشارة دائماً إلى سوء ما ستفرزه من نتائج على كل المستويات.
حضور الحرب في النتاج الأدبي السوري المعاصر.. أين جُسّد أكثر، برأيك؟.
بصراحة، لا أستطيع أنا أو غيري من الكتّاب حصر أو دراسة النتاج الأدبي السوري فيما يتعلق بالحرب، ولكن برأيي الخاص أن حضورها جُسّد في الروايات التي روت أحداثاً كان لها الوقع الأكثر إيلاماً علينا كسوريين، كروايتي “طابقان في عدرا العمالية” وكالكثير من الروايات التي تندرج تحت اسم “مدونة حرب”، كرواية “الطريق إلى تشالما” للأديب نزار طربوش ورواية “ورود من أرض النار” وغيرها الكثير.
لخصت في قصة “راشيل” فكرة أن السلام لا يحتاج إلى الصراخ بل إلى قلوب شجاعة وأياد متضامنة.. كيف تجلى ذلك عبر إسقاطاتك الأدبية؟.
كلّ شيء في هذه الحياة يحتاج إلى أفعال، لقد تكلمت البشرية كثيراً عن الظلم، ولكن ما من ظلمٍ رُفع لاقتناع الظالمين بحجج المظلومين، وإنما لمقاومتهم. وهنا لا تصلح نظرية كل فعل له ردّة فعل تساويه في القوة وتعاكسه في الاتجاه.. على ردّة الفعل تجاه الظلم أن تكون أقوى من الفعل ذاته، بل عليها أن تشكل طوفاناً في وجهه، بحيث تمحقه.. وبرأيي، ما فعلته “راشيل” كان الطوفان الذي لم تستطع القيام بأكثر منه، ولاسيما أنها فتاة صغيرة وبعمر الوردة.
ما الذي يميز رواية “وصايا من مشفى المجانين”؟.. وهل الطيار الذي كان في المصح هو ذاته “صفوان”؟.. وما الرسالة التي أردت إيصالها؟.
في سؤالك تلميح إلى عملي كضابط طيار، لست أنا ذات الطيار الموجود في المصح.. أنا جزء من طيار المصح، وجزء من فارس، وجزء من العقيد قائد الكتيبة التي حوصرت في المشفى، وجزء من “كرمو” المجنون الذي تمّ تقطيعه.. أنا جزء من الطبيب نفسه، وجزء من زوجته، وأجزائي كلها كانت في حالة مقاومة لجزء واحد متكتّل على بعضه، هو مدير المشفى الذي لاحظنا أنه يركب أي موجة تمرّ على البلد لمصلحة الاستفادة الشخصية، إذ إنه ارتشى من أهالي المجانين ومن المسلحين في آن واحد، وأحياناً كان يقوم بدوره الطبي ومن ثم ينتقل إلى دوره التخريبي. وهؤلاء عادة لا يُعرفون إلا من الوسط القريب منهم جداً لأنهم قادرون على استغلال كل شيء لمصلحتهم، وهم جاهزون في كل وقت لتبييض صفحتهم.. وهذه القاعدة تنطبق على كل من شنّ الحرب على سورية. أما الرسالة التي أردت إيصالها فهي ألا نثق بالكلام الدعائي. بل علينا، قبل الاعتماد على أي شخص، النظر إلى تاريخه الفعلي.. الأفعال هي من ترشح صاحبها إلى أي منصب، ومنح أي شخص ما لا يستحقه يعني أننا سلبنا شخصاً آخر ما يستحق. ومن وجهة نظري، فإن مقياس تطور البلدان قدرتها على التصحيح الفوري أو إجراء التعديل في الوقت المناسب.
في رواية “طابقان في عدرا العمالية”، كان الراوي على لسان الشاب “علي”.. من هو “علي”؟ وماذا يعني لك؟.
“علي” هو الإنسان السوري الحقيقي، الذي بنى حضارة عمرها حتى الآن يفوق العشرة آلاف عام، وما زال محافظاً عليها بتسامحه ورحابة صدره.. هو أنا وكل شخص ألتقي به بمحبة، هو أنتِ وكل شخص تعملين معه بوفاء، هو كلّ سوري يشعر بالذنب إذا ما غُرّر بغيره، ويسعى جاهداً لتحريره من الوهم.. لسنا الوحيدين المحتاجين للغفران، فكل البشرية بحاجة إلى التسامح.. الغفران حاجة بشرية تفوق حاجتنا إلى الطعام والماء، ولن يكون لنا أي أمل بالاستمرارية كبشر إذا ما تخلينا عن الغفران والحب.
أخيراً… حبذا لو تحكي وتعرّف لنا صفوان إبراهيم الإنسان.. من هو؟.
هو الإنسان الحالم دائماً بامتلاك عصا موسى التي تأمر بإنهاء الحرب، وبامتلاك خاتم سليمان ليردع عن أهله السوريين كلّ المصائب، وليحلّ في قلوبهم السرور، هو الإنسان الذي أحبّ أن يقول لكل السوريين املؤوا قلوبكم بالمحبة وليأخذ كل واحدٍ منكم بيد أخيه لتكون يده الثانية في يد الله تجول به في ملكوته الرحب.
ليندا تلي