طريق موسكو – واشنطن – بكين.. أي نظام عالمي قادم؟؟
“البعث الأسبوعية” – أحمد حسن
صيف عام 2021، كان الرئيس الأمريكي جو بايدن قد انتهى من “حياكة” حلف باسم “أوكوس”، يضمه مع استراليا وبريطانيا، لمواجهة الصين باعتبارها العدو الأكبر في المرحلة الحالية والقادمة، ضارباً، في سبيل ذلك، عرض الحائط بمصالح، وماء وجه، حليف تاريخي مهم مثل فرنسا، ومغازلاً، في الآن ذاته، عدواً تاريخياً أيضاً مثل روسيا لتحييدها على الأقل في هذه المعركة، وتلك سياسة وصفتها صحيفة مهمة مثل “ذي إيكونوميست” بالزلزال الاستراتيجي، بحيث يمكنك كمشاهد “رؤية الصفائح التكتونية للجغرافيا السياسية وهي تتحرّك أمام عينيك”، كما قالت الصحيفة حينها، وتلك عبارة صائبة، لأنه، ومنذ نهاية الحرب العالمية الثانية، لم يدفع تحدٍ ما، مهما كانت خطورته، بالعقل السياسي الأمريكي للتضحية بدولة مثل فرنسا التي أصبحت – أمام التحدي الصيني – وبحسب محلّل سياسي غربي “تعدّ، لسوء الحظ، أضراراً جانبية”!!.
لكن حساب الحقل لم يطابق حساب البيدر، فبعد ذلك بأشهر قليلة للغاية تحركت “الصفائح التكتونية” ولكن في أوروبا، مكانها القديم والمعتاد، وليس في شرق آسيا، ليبدو الحال وكأننا عشية الحرب العالمية الثانية عام 1939، لكن مع اختلاف مواقع الدول وتحالفاتها، حيث تحتل روسيا اليوم موقع ألمانيا الأمس في العقل الغربي، باعتبارها العدو الجغرافي والسياسي والثقافي، واختصاراً العدو الحضاري أيضاً، الأمر الذي غيّر أيضاً من وجهة التحالفات، وهكذا رأينا بايدن ذاته يحاول جمع شمل الجميع، بما فيهم فرنسا طبعاً، ولكن، للمفارقة الكبرى، الصين ذاتها، أو تحييدها على الأقل بكل الوسائل الممكنة، ترغيباً وترهيباً، ضد روسيا ذاتها التي كان يحاول سابقاً تحييدها في معركته ضد الصين.
مفارقة تاريخية
واستطراداً، فإن محاولة بايدن اليوم تحييد الصين تبدو، في المقارنة التاريخية، استعادة شبه حرفية لأوائل سبعينيات القرن الماضي، حينما وقفت الصين الشيوعية مع واشنطن الرأسمالية ضد روسيا – الاتحاد السوفياتي – الشيوعية، لكن ما يفرق بين الحالتين أمران: الأول أن الجميع اليوم رأسماليون، بصورة أو بأخرى، وبالتالي لا عقد أيديولوجية في الموضوع، والثاني، أن بكين اليوم ليست بكين الأمس، بكين الطرفية في السياسة العالمية والمتخلفة اقتصادياً بحيث كانت تحتاج إلى كل يد تنشلها من أزمتها الاقتصادية القاسية حينها.
معضلة سياسية
والحال فإن ذلك، بمجمله، ما يضع “جو النعسان” كما تصفه وسائل إعلامه، أمام معضلة سياسية يجد نفسه حائراً في كيفية مقاربتها، ففي حالة “أوكوس” كانت روسيا تطلب لصمتها على الأقل ثمناً لا يملك بايدن تقديمه – عدم دفع هذا الثمن هو بعض مما أوصل الحدث الاوكراني إلى ذروته العسكرية – واليوم تطلب الصين بدورها ما لا يمكن لـ “بايدن” تقديمه أيضاً، والأهم من كل ذلك أن بكين تعرف أمرين رئيسين: الأول أن موسكو تحركت للدفاع عن أمنها القومي، وهو عين ما اعتادت واشنطن على فعله دائماً، وما تعي بكين ذاتها أنها ستفعله مستقبلاً في جوارها إذا اضطرت لذلك، والثاني، أن الحدث الأوكراني تحديداً هو ما دفعها إلى المرتبة الثانية على المهداف الأمريكي لأنها الأولى بامتياز، فهي لا تجهل أبداً أن بريطانيا وهي دماغ واشنطن الاستعماري، أو وسواسها الخناس، كانت تعمل جاهدة في المرحلة الماضية على تعميق “التفكير في تحديد المفهوم الاستراتيجي الجديد لحلف شمال الأطلسي”، أي التوجه نحو الصين أولاً باعتبارها “عدو البشرية الأول”.
وللحق، فقد كانت تلك فترة عصيبة في الصين فقد دخلت “استراتيجية الاحتواء الموجّهة ضدّها طوراً جديداً وخطيراً”، وربما كان ما أشارت إليه حينها صحيفة “غلوبال تايمز” الرسمية الصينية، نقلاً عن مصادر عسكرية في بكين، عن احتمال “تعرّض أستراليا لضربة نووية في حال اندلاع حرب نووية”، يعكس ذلك.
لهذا كله يبدو موقف الصين اليوم، أمام الترغيب والترهيب الأمريكيين بشأن موقفها من روسيا، واضح للغاية ، فهي تدعو، من جهة أولى، “جميع الأطراف لدعم الحوار والمفاوضات بين روسيا وأوكرانيا بشكل مشترك بينما يتعين على الولايات المتحدة وحلف شمال الأطلسي إجراء محادثات مع روسيا لحل “جوهر” الأزمة الأوكرانية وتبديد المخاوف الأمنية لكل من روسيا وأوكرانيا”، وهي تحذّر، من جهة ثانية، واشنطن من “تأثير مدمّر” لمساعدة تايوان خاصة وأن “العلاقات الصينية – الأميركية لم تتغلب بعد على المأزق الذي أوجدته الإدارة الأميركية السابقة، بل على العكس من ذلك، تواجه تحديات أكبر”، كما قال الرئيس الصيني في محادثته الهاتفية الأخيرة مع نظيره الأمريكي.
الدرس الروسي – الصيني المشترك
الإعلام الغربي ذاته الذي عمد إلى تصوير الصين في المرحلة الماضية كـ “غول” آسيوي يريد ابتلاع الغرب، بثقافته واقتصاده وقيمه، هو من يصور روسيا اليوم كدولة عدوانية توسعية، لكن الواقع يقول إنه وكما شنت بريطانيا، باعتبارها زعيمة الغرب حينها، حرب الأفيون على الصين لإذلالها وإبقائها تابعاً طرفياً ضعيف للرأسمالية العالمية، وهو ما عانت منه الصين لعقود طويلة، شنت واشنطن بالأمس حربها على الاتحاد السوفياتي لاسقاطه، وحين سقط نهشت جثته في عهد يلتسن، وفيما دعمت داخلياً طبقة أوليغارشية مجرمة لنهب ثرواته – بيعت فخر صناعاته بأبخس الأثمان – وصورتهم كدعاة للحرية، أحاطته خارجياً بطوق من الدول المعادية وأرادت إيصال “الناتو” إلى حدوده، وهو مخطط تعرف بكين جيداً أنه سيطبق، بحذافيره، على أراضيها لاحقاً.
خاتمة
إذاً، “الصفائح التكتونية للجغرافيا السياسية” تحركت، أما كيف ستستقر، وعلى أي أسس، فذلك ليس رهن بما يجري اليوم في أوكرانيا فقط، بل هو أيضاً رهن، وربما بدرجة أكبر، لما يجري على خط موسكو -بكين -واشنطن، فعلى ذلك الطريق وحده سيتحدد شكل النظام العالمي القادم.