في اليوبيل الماسي للبعث
د. عبد اللطيف عمران:
. . وكالعادة، والتقليد الأصيل: كل عام وأنتم بخير، فالواجب أن يتبادل البعثيّون التهئنة بالعيد الخامس والسبعين لميلاد حزب البعث العربي الاشتراكي، ومعهم كلّ التيارات والأحزاب والاتحادات الوطنيّة والعروبيّة والتقدميّة في المنطقة والعالم، تبادلاً مقترناً بالاعتزاز والفخر بتجربة وإرث نضالي تاريخي حافل بالوعي والأصالة والأمل بمستقبل أفضل تنتفي منه مظاهر التخلّف والتجزئة وآثار الاحتلال والتطرف والتعصّب ..
وفي سياق الرؤية التاريخيّة هذه للبعث: إرثاً وحضوراً، يتنازع الناس اليوم شعوران لا يكونون فيهما على وفاق.
الأوّل: يتغنّى بالماضي وبما تحقّق فيه من وحدة تنظيميّة وفكريّة ومجتمعيّة ووطنيّة، وحضور ساطع يكون معه الرأيُ قراراً.
والثاني: يؤلمه الحاضرُ بما فيه من تراجع المدّ الوطني والقومي، وكذلك تزايد الصدمات الموجّهة إلى تلازم وحدتي الحزب التنظيميّة والفكريّة، وإلى تلازم الوحدة الوطنيّة والعربيّة وبدقة أكثر – كما كان مطروحاً لعقود – (تلازم النضالين القومي والاشتراكي). ناهيك عن الآثار الناجمة عن ضعف الوعي والهويّة والانتماء الوطنيّ التقدميّ المستنير، إذ بعد خمس وسبعين سنة من النضال تكاد تستقرّ، في غير قليل من البيئات، الانتماءات غير الوطنيّة، والهويّات الضيّقة بل القاتلة، والوعي المريض المرتبط بالعصبيّات المتطرّفة والتكفيريّة وصولاً إلى الانسياق في قطيع الإرهاب والعمالة والخيانة.
وممّا لا شك فيه أنّ الاعتراف بوجود الظواهر السلبيّة المذكورة أعلاه لا يدعو البعث إلى الانكفاء ولا إلى اليأس، بل إلى العمل الجاد والأمل بالمستقبل لإنجاز النصر، فلطالما ناضل البعثيّون ضد هذه المظاهر وألحقوا بها الهزيمة… وسيبقون قادرين على دحضها وهزيمتها.
بل إنّ هذه الظواهر تستدعي من جديد، وبشكل أكثر إلحاحاً، حضور البعث جماهيرَ ومؤسّساتٍ، نظريةً وممارسةً، وأهلُنا في المناطق الساخنة، وشبابنا الذين يُقبلون على المصالحات والتسويات يلاحظون ذلك بوضوح ودقّة.
هذا الحضور المنشود للبعث هناك من يرى أن يكون بثوبه نفسه أيام التأسيس- عقائديّة-، وهناك اليوم من يرى أن هذا الثوب من الطبيعي أن يصبح رثّاً بعد هذا الزمن وهذه الظروف، إذ إنّ تلك العقائديّة يجب أن تسير مساراً فيه «غير قليل» من البراغماتيّة أمام جيل تجاوز معطيات الحداثة، وما بعد الحداثة.
هذه الثنائيّة بين العقائديّة والبراغماتيّة، تتصل بثنائيّة أخرى هي علاقة الحزب بالمجتمع من جهة، وعلاقته بالسلطة من جهة ثانية، وهذا أمرٌ يستلزم البحث في تاريخ الحزب من البدايات حتى الآن، وصلة ذلك بالمجتمع والسلطة، فقد استُنفد هذا البحث وكثر رواده دون أن تُستحصد نتائجه حتى اليوم نظراً إلى وجود قليل من الوفاق وكثير من الخلاف بين المؤسّسين والروّاد والكوادر حتى يوم الناس هذا في عدد من المسائل، منها على سبيل المثال: البعث بين الأرسوزي وعفلق، اللجنة الحزبيّة العسكريّة، البعث وعبد الناصر وفشل تجارب الوحدة، الانتقال من الوحدة إلى التضامن إلى الأمن القومي، إذ لا تزال آثارُ (انعكاس مشاكل تأسيس البعث) ظاهرةً حتى اليوم، وهناك اجتهاد مهمّ لمؤسّس ورائد في هذا المجال هو د. وهيب الغانم خاصةً في كتاباته عن: البدايات، وكتابه: الجذور الواقعيّة والفكريّة للبعث العربي.
على أيّة حال، يمكن في هذا العيد الماسي أن نتخيّر ظاهرتين من بين غير قليل من الظواهر تستحقّان البحث والمعالجة، ورفاقنا جديرون بهذا الاستحقاق:
الأولى: تتصل بالهدف الذي ورد في الدستور السابق -1973- للجمهوريّة العربيّة السوريّة، وهو (بناء المجتمع العربي الاشتراكي الموحّد)، إذ إنّ هذا الهدف اليوم تكاد تذروه الرياح، فلا هذا المجتمع منجز، ولا حتى المجتمع المدني أيضاً الذي تطوّر وتوطّد طرحه منذ عام 2000، بينما يتقدّم اليوم حضور المجتمع الأهلي، في وقت تحتاج فيه البلاد إلى المجتمع السياسيّ الوطنيّ.
الثانية: تتصل بتباين طبيعة علاقة الحزب، بالسلطة عبر تاريخه إلى اليوم حيث مرّت هذه العلاقة بثلاث مراحل، الأخيرة بينها مع دستور 2012 والتي يعتبرها الحزب كوادرَ ومؤسساتٍ خسراناً لامتياز دستوري معهود مع القناعة أنّ وصول الحزب إلى السلطة انعكس سلباً في غير قليل من الجوانب، فهل غياب المادة الثامنة من الدستور السابق انعكس إيجاباً على الحزب، وعلى السلطة، وعلى المجتمع، انطلاقاً من أنّ الدور يُنتزع انتزاعاً ولا يُعطى منحة.، وفي حين أن كثيرين يحمّلون البعث مسؤولية كثير من الصعوبات والأخطاء التي يزخر بها واقعنا الراهن فإن كثيرين بالمقابل يعتبرون أن البعث /إيديولوجيا وسلطة/ شكّل عبر العقود الطويلة الماضية صمام الأمان لقطاعات وشرائح واسعة من أبناء مجتمعاتنا حارساً أميناً للمصالح الوطنية والقومية في مواجهة الأطماع الرجعية والصهيونية والامبريالية الغربية.
والحقيقة أنّ البعثيين اليوم، ومعهم القطاعات الأوسع من شعبنا يرون أنّ البعث حاجة وضرورة، وهو قادر بأدبيّاته وبجماهيريّته على تجاوز آثار المظاهر السلبيّة الهدّامة، وكوادره مؤمنة اليوم أن عليه أولاً إنجاز مسيرة بناء البنى الفوقيّة، قبل البنى التحتيّة، استلهاماً لتوجّهات الرفيق الأمين العام الرئيس بشّار الأسد.