مَن يُعاقب مَن؟.. هل أطلقت أوروبا النار على قدميها؟..
“البعث الأسبوعية” ــ طلال ياسر الزعبي
كشفت العقوبات الغربية المفروضة على موسكو، على خلفية العملية العسكرية الروسية في أوكرانيا، هشاشة الاقتصادات الأوروبية وحالة التخبّط التي تعيشها الحكومات الأوروبية في التعاطي مع القضايا الدولية بالجملة، فلا هي قادرة على اتخاذ مواقف موضوعية تحافظ من خلالها على علاقات ودّية مع روسيا، ولا تستطيع أيضاً تحقيق الأهداف المرجوة من هذه العقوبات حتى على المدى الطويل.
فالمتتبّع للنسق الذي سارت عليه هذه العقوبات يلاحظ أنها بمجملها لا تخدم الاقتصادات الأوروبية بقدر ما تخدم الحليف الأطلسي الولايات المتحدة الأمريكية الذي عمل منذ بداية الأزمة بين روسيا وأوكرانيا على تحريض الدول الأوروبية على اتخاذ خطوات تصعيدية تجاه موسكو غير آبهٍ بحجم الضّرر الذي يمكن أن تلحقه هذه الخطوات في العلاقات الروسية الأوروبية من جهة، والعلاقات الدولية من جهة ثانية، فضلاً عن الآثار الكارثية على الاقتصادات الأوروبية بمجملها.
وقد استيقظت الحكومات الأوروبية متأخّرة على واقع جديد في هذه العلاقات يضع العالم برمّته على فوّهة بركان، بعد أن انجرّت خلف واشنطن في استفزاز موسكو عبر الإصرار على توسيع حلف شمال الأطلسي “ناتو” إلى حدود روسيا الغربية، ورفض الاتفاق معها على ضمانات أمنية بعدم تمدّد الحلف شرقاً ونشر بنيته التحتية العسكرية بالقرب من حدودها، بل ساهمت بشكل أو بآخر بتعزيز الحضور النازي في أوكرانيا عبر تدريب القوميين الأوكرانيين على أراضيها وتحضيرهم ليكونوا رأس حربة في الاعتداء على سكان دونباس، وذلك في محاولة لإضعاف روسيا ومحاصرتها، وصولاً إلى إتمام الهيمنة الغربية على العالم بعد تحييد موسكو عن الصراع القائم لإخضاع الصين في الشرق للهيمنة الغربية والحفاظ على النظام العالمي الأحادي.
غير أن هذه الدول بدلاً من أن تسعى إلى تصحيح علاقاتها المتوترة مع موسكو راحت تعمل على زيادة الأسباب الموجبة للقطع نهائياً في العلاقات معها، ففي الحالة الأوكرانية خرقت هذه الدول جميع قوانينها الداخلية من أجل استفزاز روسيا، حيث قامت بتسهيل مرور مرتزقة وإرهابيين أجانب عبر أراضيها للقتال ضدّ الجيش الروسي في أوكرانيا، دون دراسة احتمال ارتداد هذا الإرهاب المنظّم بأسلحته المتطوّرة إلى أراضيها، فضلاً عن إصدارها قوانين جديدة في التعامل مع موسكو ربما تمتدّ آثارها السلبية إلى عشرات الأعوام، وقد تشكّل قطيعة نهائية للعلاقات مع موسكو.
ولكن هذه الدول التي فرضت عقوبات اقتصادية خاطئة ضدّ موسكو وجدت نفسها عاجزة عن احتواء آثار هذه العقوبات على اقتصاداتها، فها هي ألمانيا التي كان يفترض بها أن تبحث عن نوع من التحالف أو الشراكة الاقتصادية مع روسيا عبر مشروع السيل الشمالي وغيره من المشروعات الواعدة في مجال الطاقة، وهو مجال حيوي للاقتصاد الأوروبي برمّته، بدأت تستشعر حجم المأزق الذي وضعت نفسها فيه، وخاصة بعد إعلان الرئيس الروسي فلاديمير بوتين مؤخراً تحويل مدفوعات الغاز الروسي إلى الروبل، حيث أعلنت رفضها دفع ثمن مستورداتها من الغاز الروسي بالروبل، رغم علمها المسبق أن لا بديل لهذا الغاز في المدى المنظور، وراحت تشكو من قيام روسيا بهذه الخطوة مع علمها أنها كانت جزءاً من العقوبات الغربية المالية المفروضة على موسكو، وأن القرار الروسي بحدّ ذاته لا يمثّل سوى جزء بسيط من الردّ الطبيعي على هذه العقوبات.
فقد أشار وزير الشؤون الاقتصادية وحماية المناخ في ألمانيا روبرت هابيك إلى أن السلطات الألمانية أطلقت خطة طوارئ في حال قطعت روسيا إمدادات الطاقة عن ألمانيا، مؤكداً في الوقت ذاته رفض برلين سداد ثمن الغاز الطبيعي الروسي بالعملة الروسية الروبل وبالتالي انتهاك العقود الحالية المبرمة.
وأيّاً يكن الأساس الذي استند إليه الوزير في رفضه هذا، فإن الواقع على الأرض يشي بأن على الدول الأوروبية أن تبحث عن الروبل الروسي حتى تتمكّن من سداد ثمن الغاز الروسي إذا أرادت بالفعل الحصول عليه، ولا تستطيع ألمانيا تحت ضغط الحاجة الماسة إلى هذا الغاز وعدم إمكانية تعويضه من جهة أخرى أن تختار الرفض في هذه المسألة بالذات، لأن الضغط الشعبي في الداخل الألماني سيجبرها في النتيجة على الانصياع للقرار الروسي، وإلا فإنها ستتسبّب في أزمة طاقة في البلاد لن تستطيع السيطرة على تبعاتها، لذلك عاد ليحذّر من أن فرض حظر على إمدادات الطاقة من روسيا سيضع حدّاً لازدهار اقتصاد ألمانيا، حيث لا توجد بنية تحتية في ألمانيا لاستيراد الغاز والنفط بطرق أخرى.
واعتبر أنه في حال رفضت روسيا تزويد ألمانيا بالطاقة فإن ذلك سيهدد بإغلاق أكبر شركة كيميائية في العالم “BASF”، كما أن نقص الموارد الطاقية يهدّد بخطر هجرة شركات الطاقة إلى الخارج.
مثل هذه التصريحات المتعجرفة والمجافية للواقع دفعت رئيس مجلس الدوما الروسي فياتشيسلاف فولودين إلى القول: “الدول الأوروبية لديها كل الإمكانيات التجارية للدفع بالروبل.. إذا كنتم تريدون الحصول على الغاز، فابحثوا عن الروبل”، مشدّداً على ضرورة توسيع قائمة السلع المصدّرة مقابل الروبل، لتتضمّن الأسمدة والحبوب والزيت والنفط والفحم والمعادن والأخشاب”.
وأضاف: “لقد فعلوا هم أنفسهم كل شيء لتقويض الثقة في الدولار واليورو، حتى ترفض روسيا إجراء التعاملات بهاتين العملتين”.
وفي وقت سابق أكد الناطق باسم الكرملين ديمتري بيسكوف أن “على الشركات الأجنبية أن تفهم أنه يمكنها شراء الروبل باليورو والدولار واستخدامه لدفع ثمن الغاز، وفي الواقع لا يتغيّر شيء”.
ووفقاً لهذا الواقع تبدو تصريحات المسؤولين الغربيين حول إمكانية الهروب من شبح الاعتماد على سوق الطاقة الروسي مضحكة، حيث عمد بعضهم إلى تزيين فكرة العقوبات على روسيا ظناً منهم أن باستطاعتهم جعل روسيا تجثو على ركبتيها تحت ضغط هذه العقوبات الظالمة، وبالتالي انساقوا خلف فكرة محاصرة روسيا وخنقها في الوقت الذي أصرّت فيه الأخيرة على إفهام الغرب أن الاقتصاد العالمي كلّه مهدّد بهذه العقوبات وليس فقط موسكو.
فضلاً عن ذلك، فإن الدول الغربية لا تستطيع ضمان عدم استعاضة موسكو عن أوروبا بلاعبين دوليين آخرين، فالصين وهي الشريك الاقتصادي الأول لروسيا أعلنت مراراً أنها لن تتوانى عن شراء النفط والغاز الروسيين، وأنه ليس لأحد في هذا العالم أن يحدّد لها طبيعة تحالفاتها الاقتصادية مع الآخرين.
فقد أفادت الخارجية الصينية بأن بلادها لا تستبعد إمكانية التحوّل إلى عملة “الروبل” أو “اليوان” في سياق تجارة الطاقة مع روسيا.
فإذا كان المحرّض الأمريكي لا يستطيع الحفاظ على عملته الدولار في التعاملات البينية بين الدول، وخاصة الصين وروسيا، فكيف لأوروبا وهي التي قوّضت بنفسها التعاملات المالية بعملتها اليورو أن تتمكّن من إخضاع دول كبرى مثل روسيا، وهي مضطرّة أصلاً للغاز الروسي ولا بديل لها عنه في المدى المنظور، فضلاً عن النفط والفحم والمعادن الأخرى.
كل ذلك جعل المتحدث باسم الرئاسة الروسية يقول: “عندما يصحو الأوروبيون قليلاً من سكرتهم بمشروب البوربون الأمريكي، وعندما يعون أن مصير قارتنا هو مسؤوليتنا المشتركة، عندها سيحين الوقت لإعادة النظر في علاقاتنا والدخول في حالة من الحوار”.
ومن هنا يتبيّن أن الدول الغربية بفعل تبعيّتها للقرار الأمريكي اتخذت قرارات خاطئة في العقوبات المفروضة على موسكو، لن تستطيع واشنطن التي حرّضتها عليها تغطية جزء بسيط من آثارها، وأن آثار هذه العقوبات ستمتدّ فترة طويلة من الزمن، لذلك كان عليها أولاً أن تعرف مدى قدرتها على ذلك قبل الشروع به، لأن التصعيد دون حساب النتائج سيؤدّي بالمحصلة إلى الدمار.