تأسيس البعث.. صياغة الفكر القومي
د. معن منيف سليمان
نشأ “البعث” في سورية، وكان استمراراً لحركة القومية العربية في نضالها ضدّ الاحتلال العثماني، ومن بعده ضدّ الاستعمار الغربي، وكان تلبية لحاجات الأمّة العربية في تلك المرحلة التاريخية في تكوين حركة سياسية شعبية منظّمة تناضل في سبيل تحقيق أهدافها. ففي تلك المرحلة وبالتحديد في العشرينيات من القرن المنصرم خضع القطر العربي السوري للحكم الفرنسي المباشر، بعد أن احتلّت الجيوش الفرنسية دمشق، إثر معركة ميسلون في تموز 1920. وعلى هذا الأساس، بدأت مرحلة الكفاح الذي قادته قوى الاستقلال الوطني التي كانت تتمثّل بصورة رئيسية في جماهير الفلاحين في الريف، وجماهير أبناء المدن من عمّال وحرفيين وكسبة وتجّار وطلاّب ومتعلّمين ومثقفين. كما برزت بعض الزعامات الوطنية في قيادة بعض أجنحة الكفاح الوطني أيضاً، في حين وقف بعض الوصوليين من السياسيين المحليّين إلى جانب سلطة الاستعمار المتمثّلة بجيوش الاحتلال وسلطة الانتداب طمعاً في بعض المكاسب والمغانم.
ونتيجة للكفاح المسلّح الذي كان السمة الأساسية للنضال الوطني في سورية في المرحلة ما بين عامي 1920 و1928، عندما تجلّى ذلك بصورة ثورات شعبية مسلّحة كان أبرزها ثورة عام 1925، أُجبرت سلطات الاحتلال على إقامة نظام سياسي ذي شكل دستوري منذ عام 1928، وقد أدّى وجود دستور ورئيس للجمهورية ونظام برلماني إلى انتقال هذا الكفاح من صيغته ككفاح شعبي، بصورة انتفاضات مسلّحة مركزها الأرياف وقوامها جماهير الفلاحين إلى صيغته ككفاح سياسي مركزه المدن وقوامه جماهير أبنائها، وكان ذلك بداية الانتقال من مرحلة الثورات العفوية غير المنظّمة إلى العمل السياسي العقائدي المنظّم.
وقد تولّت قيادة هذا الكفاح السياسي، في ذلك الوقت، الأحزاب السياسية الأساسية التي تأسّست في سورية في مرحلة ما بين الحربين، وهي أحزاب الكتلة الوطنية، وعصبة العمل القومي، والحزب الشيوعي السوري- اللبناني، والحزب القومي السوري الاجتماعي. وباستثناء عصبة العمل القومي التي تبنّت شعارات الثورة العربية الكبرى عام 1916، في الاستقلال العربي والوحدة العربية، فقد كانت الأحزاب الأخرى كلّها أحزاباً إقليمية.
ولقد أخفقت هذه الأحزاب السياسية في القيام بدور فعّال في النضال الوطني ضدّ المستعمرين، بسبب خلافاتها وتناحرها على السلطة، وبعد أن ثبت عجزها عن الوقوف في وجه سلطات الاحتلال. وكان الأهم من ذلك كلّه رفضها فكرة القومية العربية وإحلالها تناقضات وهميّة وأيديولوجيات دخيلة بديلاً من التناقض الرئيسي بين الاحتلال وبين مطلب الاستقلال الوطني الملحّ الذي كانت تنادي به القوى الوطنية. وكان للجماهير العربية دور بالغ الأثر في رفض هذه الأحزاب السياسية ورفض أيديولوجياتها، ما أفقدها عاملاً مهمّاً وحيوياً في استمرارها؛ ونتيجة لهذا الفراغ في قيادة النضال الوطني تطلعت الجماهير الواعية إلى تنظيم جديد يلبّي آمالها ويحقق طموحاتها في التحرير والاستقلال ويقودها في عملية البناء والتطوير، وقد بدأت طلائعه تلوح في الأفق بالفعل.
في ظلّ هذه الظروف التاريخية المحلية والعربية والدولية، والأوضاع الاقتصادية والاجتماعية والسياسية الصعبة ظهر حزب “البعث العربي” باسم “حركة الإحياء العربي”، ليختار بعد مدّة قصيرة اسم حركة “البعث العربي”، ورفع شعاره الأساسي “أمة عربية واحدة ذات رسالة خالدة”، وطرح الخطوط العامة لفكره السياسي، وشرع في النضال السياسي.
وفي الواقع، ترجع البدايات الأولى لظهور حزب البعث إلى عام 1940، ولكنّه لم يبرز على الساحة السياسية في سورية إلا بدءاً من عام 1943، ذلك العام الذي يعدّ نقطة تحوّل لا في التاريخ السياسي للقطر العربي السوري وحسب، وإنما في حياة حزب البعث العربي الاشتراكي أيضاً، لأن فيه ظهرت “حركة البعث العربي” أوّل مرّة، لا كحزب سياسي فقط، وإنما كممثلة لأيديولوجية شعاراتها الأساسية هي الوحدة والحرية والاشتراكية. وفي العام نفسه، أعادت سلطات الاحتلال الفرنسي العمل بالدستور السوري الذي وضعته الجمعية التأسيسية، عام 1928، وتمّ إجراء انتخابات نيابية لإقامة برلمان جديد، وتمّ كذلك انتخاب رئيس للجمهورية.
استطاع حزب البعث في مرحلة التأسيس أن يشغل دوراً حاسماً ومهماً في تعبئة الجماهير في سورية لتحقيق الاستقلال ومواجهة الاحتلال الفرنسي، ولاسيما ما بين عامي 1943 و1945، التي انتهت بإخفاق العدوان الفرنسي في 29 أيار 1945. وبتحقيق الجلاء العسكري عن سورية في 17 نيسان 1946، هذا الجلاء والتحرير هما اللذان أتاحا لحزب البعث أن يتأسس في نيسان عام 1947، فكان المؤتمر التأسيسي انطلاقاً للحزب الذي أسهم بشكل فعّال في قيادة نضال الشعب العربي، وأقرّ مفاهيم سياسية واقتصادية واجتماعية، ووضع إستراتيجية جديدة تصون الأمة العربية وتحمي أبناءها، ما أثار قلق الاستعمار وأتباعه، فشرعوا في عرقلة مسيرته النضالية ومقاومة أهدافه بشتى الطرق والوسائل، ولكنهم أخفقوا أمام صمود مناضلي الحزب الذين غيّروا الصورة في المنطقة العربية وأضفوا عليها الطابع العربي الشعبي.
في مقهى الرشيد الصيفي الذي يقع في شارع 29 أيار حالياً في مدينة دمشق، انعقد المؤتمر التأسيسي الأول لحزب البعث العربي ما بين 4- 6 نيسان عام 1947، وأنهى أعماله مع بداية اليوم السابع من نيسان، معلناً عن مقرراته التي صاغت أهداف الحزب الأساسية في الوحدة والحرية والاشتراكية، وحدّدت الدستور والأسس التنظيمية والنظام الداخلي.
وجاء تأسيس البعث ثمرة نضال جماعي شاق، خاضه مناضلو الحزب في ظل ظروف صعبة وقاسية للغاية سادت أرجاء الوطن العربي، وأثقلت كاهل الأمة لسنوات طويلة، حيث التقت جهود هؤلاء المناضلين حول مبادئ الحزب الكبرى وأهدافه الرئيسية، مقتنعين بأن العمل السياسي المسؤول هو الأجدى والأكثر فعالية تحت مظلة تنظيم واحد يؤمن أفراده بفكرة واحدة، ويجمعهم هدف واحد.
كان المؤتمر التأسيسي انطلاقة لحزب جديد شغل دوراً في صياغة الفكر القومي واستنهاض الشعور القومي والوطني في مواجهة القوى الاستعمارية، ولفت أنظار العرب إلى الأخطار المحدقة بأمتهم، فكانت ثورة آذار عام 1963، بقيادته، هي الحدث الأبرز الذي حقّقه في المراحل اللاحقة، وتمكّن من تفجير ثورة آذار في سورية وتولّى قيادة الدولة والمجتمع، فحوّل بنجاح ملحوظ المبادئ والأهداف والشعارات التي كان يرفعها وينادي بها طويلاً إلى برامج وخطط عمل جسّدت تطلعات الجماهير العربية وطموحاتها، وسمحت للحزب أن يستجيب للتطورات المحلية والعربية والدولية التي أحاطت بنضاله مروراً بالحركة التصحيحية عام 1970، التي قادها القائد المؤسّس حافظ الأسد، وصولاً إلى مسيرة التطوير والتحديث التي يقودها السيد الرئيس بشار الأسد الذي استطاع أن يحافظ على المكتسبات التي حقّقها الحزب عبر مسيرته النضالية الطويلة، ويطوّر من فكره وأساليب عمله.
وهكذا كان المؤتمر التأسيسي لحزب البعث العربي خطوة ناجحة للجيل العربي الصاعد نحو أهدافه، كما كان الركيزة الأولى لأوّل حزب جماهيري عقائدي قلب وجه المنطقة ومفاهيمها، وذلك بما كان بين صفوفه من أهل الفكر والعمال والفلاحين، حيث امتدّ على طول الوطن العربي بشكل متواصل ما أثار هلع المستعمرين وأتباعهم فأخذوا يقاومون الحزب وأعضاءه بكلّ وسائلهم، ولكنّه صمد وبدّل الصورة في المنطقة العربية وألبسها الثوب العربي الشعبي.