أنتِ الصوت.. وهم الصدى!
حسن حميد
أبكتني الصّورة، صورة أم ناصر أبو حميد، التي بدت وحيدةً في بيتها (مخيم الأمعري)، وهي تتناول طعام الإفطار في شهر رمضان، وليس معها سوى أولادها الستة الذين أحاطوا بها صوراً باسمة، وهي تتناول لقماتها المغمّسة بالغُصّات والدموع.
لا أحد معها سوى طيوف أولادها الستة، أحدهم هو عبد المنعم الشهيد، والخمسة الآخرون هم أسرى في معتقلات العدو الإسرائيلي! أما والدهم فقد رحل حزناً بسبب المصير الذي آلوا إليه: ناصر محكوم بـ 7 مؤبدات، ونصر محكوم بـ 5 مؤبدات و30 سنة، وشريف محكوم بـ 4 مؤبدات، ومحمد محكوم بمؤبدين اثنين و30 سنة، وإسلام محكوم بمؤبد واحد وثماني سنوات، وأمّهم تعرف أن سنوات المؤبد الواحد هي 99 سنة! في الصّورة التي أبكتني، تجلس الأمّ مقابلة لأولادها وصوتها البحيح الواني يناديهم كي يتناولوا طعام الإفطار معها، فهي تحسّ بوجودهم على الرغم من أنهم حولها صور فقط.
هذه الصّورة، ليست صورة منتزعة من فيلم سينمائي، ولا من مجلة، ولا من أسطورة إغريقية، ولا من قصة لظلم في القرون الوسطى، أو قصة من قصص البطش النازي.
أبداً، إنها صورة للحياة الفلسطينية الرّاهنة المكررة بعذابها وأساها وأحزانها وانتظاراتها، وثقل حمولتها الباطشة منذ مئة سنة وحتى هذه الساعة، إنها واقع الأمهات الفلسطينيات اللواتي تشققت أقدامهن، ذهاباً وإياباً، من وإلى المعتقلات الإسرائيلية، يسألن عن فلذات أكبادهن صغاراً وكباراً، ذكوراً وإناثاً، وقد غلّتهم أيدي الاحتلال القذرة في المعتقلات والزنازين، وحكمت عليهم زوراً وبهتاناً بالمؤبدات لأنهم آمنوا بالحرية والاستقلال. ويا لعظمة الفلسطيني الذي يظنّه عدوه الإسرائيلي بأنه سيعيش أكثر من 99 سنة، وإن عاش أكثر فهو سيواصل المواجهة تلو المواجهة لظلموت الاحتلال، ولذلك يحكم عليه بالمؤبدات المتعدّدة.
هذه الأم العظيمة التي تتناول طعامها، وسط صور أبنائها الأسرى، تهزأ، وبالقناعة التّامة، من أحكام العدو الإسرائيلي، فهي لا تؤمن بها، ما تؤمن به هو أن هذه الصور المحيطة بها، ستصير حقيقةً، وأن أبناءها سيعودون إليها لا بدّ.
أم ناصر، وفي الصّورة، تدير ظهرها للعالم الضرير كي تقابل صور أبنائها، لتقول: إنها مع أولادها الآن، تحدثهم وتسأل عن أخبارهم، وتستعد لزيارتهم، لتكون الأقرب إليهم في كلّ أمر.
هذه الأم، أنجبت ستة أبناء ذكور صاروا اليوم طيوراً، وأخباراً، وقصصاً، وروايات، وأناشيد، وكتباً يقرأ الآخرون فيها سيرة أسرة أبو حميد التي أُريد لها أن ترى الهلاك والموت، لكن سيرة الأبناء الأسرى تواصل هتاف الأجداد في كلّ لحظة وآن: بلادي، بلادي.
هاهي الأمّ الباسلة، وسط ست بقع أرجوانية لأبنائها الأبطال، كل بقعة فيها من الجمال والسّحر الحلال ما يطرب القلب وما يذهل العقل، لأنهم آمنوا أن الحياة وقفة عزّ، وأن الأمجاد، يكتبها الرجال أهل العافية والكبرياء، لهذا فإن مخيّم الأمعري يضيء أكثر كلما نادت هذه الأم العظيمة على واحد من أبنائها، إنه يضيء من البيرة إلى شفا عمرو، إلى أريحا، إلى الناصرة، إلى جنين.. لأن الروح واحدة، والأحلام واحدة وكلّها تقرأ في كتاب واحد عنوانه ومآله /فلسطين/.
أم ناصر مؤمنة، مثلنا، بأن أسوار المعتقلات إلى زوال، وأن أولادها سيعودون من أجل دورة دموية جديدة للحياة، لأنها ترى الربيع يعود، والنهارات تعود، والطيور تعود، ولا بدّ للأحلام المحوّمة من أن تحطّ لتصير واقعاً معاشاً بلا سجون، بلا خوف وبارود، وبلا هموم ومؤبدات.
أيتها الأم العظيمة أنتِ وأبناؤك الصوت.. وهم الصدى!.
Hasanhamid55@yahoo.com