اللّحْيَة
عبد الكريم النّاعم
سبق أن ذكرتُ أنّني كلّما لجأتُ إلى الفراش طلباً للنّوم الذي يصبح عصيّاً، لدى البعض، لاسيّما في عمر معيّن، ويصعب ضبط توارد الأفكار، وهذا الشغب طبيعة في الدّماغ البشريّ.
هذه المرّة داهمتْني فكرة “اللّحية”، فأحببتُ مشاركتكم، ومثل هذا يحدث مع الغالبيّة، اللّحية سمة بشريّة خاصّة بالرجال، وتصوّرت لو أنّ للنساء لحية، فاستوقفتْني الفكرة، وأدركتُ معنى “إنّا خلقْنا الإنسان في أحسن تقويم”، وتذكّرت أنّ العالم لا يخلو من مُناكف يقول لو كان ذلك لاعتدْنا عليه، وهي فكرة قد تُقبَل، وبذلك تُسقِط من حسابها القيمة الجمالية.
في كلّ المجتمعات البشريّة كانت اللحية تُتْرَك، إلاّ من بعض التّشذيبات المتناسبة مع تقدّم الإنسان في سلّم المدنيّة، وهذا كان حال أجدادنا العرب، وحتى ما بعد الإسلام وأثناء انتشاره، وقد أوصى الرسول الأعظم صلوات الله عليه وآله، بإطلاق اللحية وحفّ الشارب، بل وفي صبْغها في بداية الدّعوة لكيلا يظهر المسلمون وكأنّهم في شيخوخة، وتُرك ذلك لحريّة المسلم بعد اشتداد عود الإسلام.
هنا يبرز حجم اللّحية في إطلاقها، فبعضهم بالغ في ذلك، وثمّة مَن كان معتدلاً، وتروي كُتب الأدب بطرافة أنّ رجلاً ملتحياً كان يقرأ في كتاب جاء فيه ما معناه اللحية بمقدار قبضة اليد، أي من حيث طولها، وما زاد عن ذلك فهو قلّة عقل، وكان الرجل يقرأ على ضوء شمعة موقدة أمامه، فأمسك بلحيته فوجدها تزيد عن القبضة بكثير، فأراد أن يتخلّص ممّا زاد، فأمْسك بلحيته، وقرّب لهب الشمعة ليحرق الزّائد، فاشتعل الشعر سريعاً، ووصلت النّار إلى يده فرفعها عن لحيته فاحترقت لحيتُه كلّها، فكتب على هامش الكتاب “صحيح ومُجرَّب”.
هل تذكرون كيف كان الدواعش يُطلقون لحاهم ويُطيلون شعور رأسهم؟!!.
للّحية قيمة معنويّة في التعامل، فإذا أراد أحدهم أنْ يرجوك من أجل شيء يمسك بلحيته، وكأنّه يقول لك من أجل هذه اللحية، وفي المجتمعات البدويّة والفلاحيّة المجاورة إذا أرادوا امتداح رجل قالوا: “لِحْيِةً غانمة”، وإذا أراد أحدهم أن يضمن تنفيذ أمر ما أمسك بلحيته، بمعنى أنّه يضمن ذلك، وقد كان معظم النّاس في المجتمعات العربيّة الإسلاميّة يُطلقون لحاهم، وكم من مغضوب عليه من هذا الأمير، أو ذلك الوالي أُحْضِر وأمروا جلاوزتهم بنتف لحيته، فيخرج ذليلاً مُهاناً، وقد يعتزل الناس حتى تعود لحيته إلى بعض ما كانت عليه.
حين يستمع الناس إلى مَن لا يهتمّ أن يُقال فيه إنّه مُداهن، بخبث يقولون: “إنّه ضحك على اللّحى”، أي خداع مفضوح، لا تنسوا أنّنا في بعض أزمنتنا التي مرّت بنا كنّا نرى بين بعض الشباب من نتف شعر وجهه، فلا شارب ولا لحية، وربّما تخنّث حتى ليصعب تمييزه عن بُعد أهو شاب أم فتاة؟!!
في أزمنة ليست بعيدة كثيراً عنّا كانت حلاقة اللحية طقساً يوميّاً أو شبه يومي، بينما نرى الآن أنّ معظم شبابنا يُطلقون لحاهم. وشاع ذلك، لا بسبب التقليد وحده بل ربّما لغلاء أدوات الحلاقة بعد جائحة الخراب الإخواني الداعشي.
في خمسينيات القرن الماضي، انتشر ترك اللّحية بحدود أسفل الذقن، خفيفة، أو أطول بقليل، بين بعض الأدباء، والرسامين، والفنّانين، واسمها الشائع “سكسوكة”، وربّما تسرّب ذلك إليهم من أدباء الخارج.. هذه السكسوكة اسمها الفصيح “عَنْفَقة”، وهي ذات لفظ ثقيل على السمع.
الآن مع تقدّم الآلات الخاصّة بالحلاقة، صار بإمكان أيّ شاب أن يصوغ لحيته على الشكل الذي يروق له، ولكنْ.. يا حسرة!! هذا يحتاج إلى الكهرباء، التي نرجو لها أن تظلّ كما في شهر رمضان.
aaalnaem@gmail.com