” كار الشحادة”.. المتسولون يتكاثرون والجهات المختصة غارقة في سباتها..!.
ليست وليدة الحرب ولا الفقر، بل كادت تصبح اليوم مهنة كباقي المهن المتأطرة بشروط وساعات عمل وقواعد معينّة يحددها القائمون عليها أو بعض الجهات “المُتخفية” عن العين والمُحركة لهذه “المهنة” كمسرح دمى يحصدون من عملهم عشرات الملايين سنوياً على عين وزارة الشؤون الاجتماعية والعمل التي لا تخلو تصريحاتها وتقاريرها من جهودها المبذولة لضبط ظاهرة التسول وقيامهم باتخاذ إجراءات جدّية لقمع الأعداد المتزايدة بشكل مخيف، لكن الواقع الملموس ينبئ بالعكس دوماً، لا سيّما مع انتهاء الحرب “الشمّاعة لهذه الظاهرة”، وتكاثر أعداد المتسولين واتخاذهم لأماكن باتت مخصصة لهم ومتشبثين بها وكأنها كُرسي لمنصب رفيع يدّر عليهم ربح وفير.
جيب الفقير
أساليب كثيرة وحيل وخدع بصرية وجسدية واستعطاف المواطن الفقير بالتسوّل و”الشحادة” لأجل إطعام أطفالهم الرّضع الذين يحملونهم في برد الشتاء ولهيب الصيف على أمل الظفر بما يحويه جيب المواطن الذي هو أشدّ فقراً منهم “في أغلب الحالات”، إذ أننا نادراً ما نرى شريحة المتسولين في الأحياء والحارات الراقية، في حين يتضاعف عددهم في مناطق المخالفات وتجمع الكراجات والأسواق الشعبية التي تحتشد فيها الطبقة الفقيرة وما دونها، ليكون جيب المواطن الفقير هو المستهدف دوماً حتى عند شريحة المتسولين.
أفضل من الوظيفة
ولأن شهر رمضان هو شهر الخير كان لهذه الفئة وجهة نظرهم المختلفة والخاطئة في فهم الخير الذي يجب أن يعمّ – حسب رأيهم – على بيوتهم خلال رمضان بتكثيف عملهم وانتشارهم بجانب الجوامع لأطول فترة ممكنة مع ذكر عبارات محددة وأدعية تناسب الجميع بهدف استعطاف المارة وتكنيز الأموال التي لطالما أكدت الجهات المختصّة ضبطها لأعداد كبيرة من المتسولين ممن تضاهي ثروتهم من الأموال والعقارات الكثير من تجار البلد، لكن بتكاليف قليلة لا تتجاوز الملابس الرثّة والكثير من البؤس والاحتراف، ليصبح “كار الشحادة” هذه الأيام أفضل من أي وظيفة، خاصّة وأن يومية المتسوّل لا تقل عن الـ20 ألف في هذا الشهر الكريم –حسب ما أكده صاحب أحد المحال التجارية ممن اتخذّت إحدى المتسولات ركناً لها بجانب محلّه- باعتبار أن موقع المحل استراتيجي وعدد زبائنه ليس بالقليل.
عدم تعاون
ولا يختلف اثنان على انتشار هذه الظاهرة كالنار في الهشيم خلال السنوات الأخيرة ووجود ثغرات وفجوات في ردع أصحابها وقمعهم، لا سيّما وأنّ المارة باتوا يحفظون عن ظهر غيب أشكال هذه الفئة وأماكن تواجدهم، في حين لا زالت الجهات المختصّة غارقة في سباتها، ولعلّ قيام أحد المواطنين أمامنا منذ أشهر بتقديم شكوى حول تسوّل امرأة تحمل “رضيعة” في منطقة كراجات العباسين على مدى عام كامل بحجة شراء حليب لطفلتها والتي أكدّ أصحاب البسطات في تلك المنطقة أن هذه الطفلة تعود لإحدى أقاربها وتقوم باستغلالها “للشحادة” وقسمة المربح مناصفة مع ذويها كان أكبر دليل على “تطنيش” الجهات المسؤولة لهذه الكارثة وعدم تكليفها لنفسها للتأكد من صحة هذه المعلومة التي قد تقودنا إلى اتجار بالأطفال تحت بند التسول، ناهيك عن وجود شريحة أخرى تُعتبر الرأسمال والعقل المدبّر لفئة من الأطفال والشباب “ذوي الإعاقة” والمحتاجين فعلاً للمال والذين يقومون باستغلالهم وإدارتهم ضمن شبكة للتسوّل في الأسواق “كسوق الحميدية” وعلى أرصفة الطرقات ضمن ساعات عمل يومية محددة من قبلهم بحيث يتكفلون بنقلهم من أماكن إقامتهم إلى هذه الأسواق صباحاً وعودتهم إلى منازلهم مساءً مع هامش ربح قليل للمتسوّل ذوي الإعاقة.
توسيع البطالة
وبعيداً عن الإجابات الورقية والجاهزة سلفاً للردّ على استفساراتنا عن هذه الظاهرة، والتي لطالما تضمنت أرقاما وتقارير وحلولا وجهودا لم نحصد نتائجها على أرض الواقع لأسباب نجهلها، تحدث الخبير الاقتصادي أيمن الصالح عن خطر هذه الظاهرة اجتماعياً واقتصادياً على البلد، وتفاقمها الكبير خاصّة خلال هذا الشهر باستعطاف المارّة ممن ترق قلوبهم في رمضان بحثاً عن أجر الصدقات. وألقى الصالح اللّوم على الوزارات المختصّة (إعلام وأوقاف وشؤون إجتماعية) في تسليط الضوء أكثر خلال هذا الشهر على الصدقات وتقديمها للفقراء فقط لا المتسولين ممن تجوب حولهم عشرات إشارات الاستفهام حول مصداقيتهم وحقيقة حاجتهم، لاسيّما وأن أغلب المتسولين اليوم يندرجون ضمن فئة اعتادت “الشحادة”، واستسهلت العمل بها نظراً لتحقيقها ربحا كبيرا وسريعا بتكاليف صفر، لتصبح عندهم فناً من فنون النصب والاحتيال مع غياب رادع حقيقي يضبط هذه الظاهرة التي توسع دائرة البطالة مع تركيز ثروة ليست بالقليلة بأيدي فئة غير مستثمرة وغير منتجة بحيث لا يعود رأس المال هذا بالنفع الاقتصادي على البلد، وتساءل الخبير الاقتصادي عن أسباب غضّ نظر دوريات وزارة الشؤون عن الكثير من المتسولين المحتفظين بأماكنهم منذ أعوام، الأمر الذي يشي بتقاضي هذه الدوريات نسبة من عمل المتسولين أو عدم وجود إمكانية حقيقية لمعالجة وضعهم، ناهيك عن وجود خلل أو ضعف في تطبيق القانون على هذه الفئة التي لا تجد رادع يخيفها.
عواقب اقتصادية
ولم يحصر محمد كوسا – خبير إقتصادي – المتسولين بتلك الفئة التي نراها في الشارع بثيابها الرثّة طالبة المال من المارة علناً، فمظاهر التسول اليوم باتت متنوعة وجامعة للكثير من المهن لكن بطرق مختلفة فالمرتشي مثلاً هو متسول بشكل مختلف، والتاجر الذي يرفع السعر أضعاف مضاعفة هو متسول أيضاً لكن بشكل أنيق، ولم ينف كوسا وجود التسوّل في جميع دول العالم، لكن في حال تجاوزت نسبته 1/10000 يصبح مؤشراً جلياً عن وجود فجوة، مرجعاً السبب الرئيسي لهذه الظاهرة اليوم بالخلل القانوني والأخلاقي والإدارة الاقتصادية السيئة في الكثير من المطارح، إذ أن إدارة العملية الإنتاجية الاقتصادية هي جوهر الموضوع وبوصلة القضاء على هذه الظاهرة، ويرى الخبير الاقتصادي أن تفاقم التسول وتحوله إلى “كار” خلال السنوات الأخيرة سببه أن الكثير من مواقع الإنتاج غير مُتاحة لشريحة معينة رغم توفر عدد من المؤهلات لديهم لتتجه هذه الشريحة إلى الشحادة نتيجة الحاجة الكبيرة للمال، إضافة إلى الشريحة الأخرى التي تعاني من كسل “إعاقة جسدية أو نفسية” وغير قادرة على العمل، والشريحة الأكثر انتشاراً تلك التي لا تعاني من أي إعاقة لكنها تخلّت عن مبادئها واستسهلت هذه المصلحة.
ويبقى أن نقول أن التسوّل هو مؤشر على خلل اقتصادي ونقص في الجوانب الإنتاجية ، الأمر الذي يؤكد على حاجتنا للنهوض بمنظومة التشغيل واستثمار هذه الشريحة بشكل إيجابي حسب إمكانياتهم!.
ميس بركات