وسط ندرة “شيوخ الكار”.. التجارة الداخلية والخارجية تغرق في مشكلاتها!
تقارير كثيرة ودراسات معمّقة وأبحاث كبيرة بحجم الخسائر التي تكبّدها اقتصادنا خلال سنوات الحرب، وتصريحات لم تخلُ يوماً من تنظير الجهات المسؤولة بعناوين عريضة غزت وسائل الإعلام عن خطوات وحلول ومقترحات للإصلاح الاقتصادي بجميع قطاعاته، تشفي العليل وتأخذ بيد الصناعة والتجارة إلى فسحة الأمان التي كانت تعيشها قبل الحرب، إلّا أننا إذا ما جرّدنا الواقع الملموس اليوم بعيداً عن تصريحات الحكومة ومغازلتها لأحلام المواطنين نجد أن قطاعي الصناعة والتجارة في أسوأ حال اليوم، إذ يُجمع أهل الاختصاص على انخفاض قيمة الليرة السورية، رافقه انخفاض في قيمة الصادرات، مع ارتفاع في مستويات التضخم، لتصل الأمور إلى تدهور في قطاع التجارة بشقيه الداخلي والخارجي.
خلل وركود
وعلى الرغم من الأهمية التي يلعبها قطاع التجارة بجناحيه الخارجي والداخلي في تعزيز الاقتصاد السوري لجهة خلق قيم مضافة للسلع السورية المنتجة محلياً، وتحسين فرص تصديرها وتأمين متطلبات الصناعة المحلية وتوفير العرض السلعي في السوق الداخلية لتأمين حاجات الاستهلاك اليومي، إلّا أنه لم يستطع حتى اليوم نفض غبار الحرب عنه والتي أثرت عليه بشكل كبير نتيجة العقوبات التي تمّ فرضها على سورية، إضافة إلى الارتفاعات المستمرة لسعر القطع الأجنبي والمنعكسة على تكاليف الإنتاج المحلي، مما أدى إلى ارتفاع أسعار السلع المنتجة والمستوردة على حدّ سواء، وركود شديد في الأسواق الداخلية وتراجع واضح في رقم أعمال ومبيعات أغلب الفعاليات التجارية، وهذا بلا شك كان يتطلّب معالجة سريعة لأوضاع القطاع التجاري من خلال نظرة أكثر شمولية تُترجم بإجراءات عملية على الأرض، وذلك من خلال تذليل جميع الصعوبات التي تعترضه وصولاً لأكبر مشاركة اقتصادية ضمن بيئة عمل تشاركية ما زالت غائبة عن فكر وعمل الفريق المختص!.
خارج الصندوق
الاقتصادي الدكتور زكوان قريط اتهم قطاع التجارة الداخلية بالضعف بسبب ضعف التصنيع المحلي، وهو الآخر يعاني من عدة صعوبات، أهمها عدم توفر حوامل الطاقة (كهرباء، مازوت..)، ما يجعل توافر السلع في الحدود الدنيا، وهذا الأمر برأي قريط ينسحب أيضاً على قطاع الزراعة لأنه هو الآخر يعاني، فالأمر عبارة عن سلسلة متصلة ببعضها تبدأ بالزراعة وتنتهي بالتجارة الداخلية. ولم يُخفِ الخبير الاقتصادي أن قطاع التجارة الخارجية هو الآخر ليس بأحسن حال من الداخلية، لأن معظم المنتجات المؤهلة للتصدير لا تكفي للاستهلاك المحلي والفائض ضعيف أو أنه مهدور كما هو الحال في محصول الحمضيات وما رافقه من صعوبات، وبالتالي فإن الأمر بحاجة للتفكير بأسلوب إبداعي وليس تقليدي، خاصّة وأننا اليوم بحاجة لمن يدير بحكمة هذين القطاعين ويقوم بحل مشكلاتهما بشكل جذري بالتنسيق مع القطاعات الأخرى. وشدّد قريط على أهمية البحث عن أسواق أخرى خاصة فيما يتعلق بالمنتجات المحلية التقليدية التي تشكل ميزة تنافسية كالزيتون والزيت والصابون وغيرهما، ناهيك عن الحاجة الملحّة للتفكير خارج الصندوق والتعامل مع الصعوبات بأسلوب التاجر الذكي وليس بأسلوب بيروقراطي.
غير مرنة
وتحدث عامر ديب عضو مجلس إدارة جمعية حماية المستهلك بدمشق وريفها عن غياب مفهوم التجارة الخارجية حالياً، مشيراً في الوقت نفسه إلى أن الآلية التي يعمل بها سوق التجارة الداخلية هي آلية غير مرنة وغير واضحة وتقوم على توفير السلع بغض النظر عن سعرها، إضافة إلى عدم توفر منظومة عمل في تسعير السلع. وتساءل عضو مجلس الإدارة عن غياب الترابط بين التجارة الخارجية والداخلية والذي يقوم على استيراد احتياجنا من سلع معينة وتصدير الفائض عن أسواقنا، فوزارة الاقتصاد برأي “ديب” تتكلم عن أرقام تصدير غير واضحة ولا تتناسب مع حجم الإنتاج الداخلي “ألبسة ومصنوعات مهنية ويدوية وغيرها..”، ولاسيما أن الكثير من الصناعات تراجع خلال الحرب، وقدم “ديب” مثالاً عن حديث غرف الزراعة حول أن 90% من قطاع الزراعة يحتضر، وبالتالي كيف يتمّ تصدير غذاء المواطن، علماً أن إنتاجنا لا يكفي، وما هي الفوائد الواردة إلى خزينة الدولة من التصدير بآليته الحالية غير المنظمة والتي لا تمتلك دراسات السوق؟، وانتقد عضو مجلس الإدارة قرارات الاستيراد لتسيير أمور التجارة الداخلية غير المبنية على رؤية وأي إجراء يتخذ في غير وقته.
حلول للنهوض
واقترح ديب حلولاً للنهوض بقطاع التجارة، أهمها الحاجة لفتح الاستيراد وتمويل التاجر، والسماح باستيراد جميع السلع دون قيود أو شروط، موضحاً أنه بحجة منع الاستيراد والحفاظ على سعر الصرف ارتفعت الأسعار وارتفعت معها نسب التضخم بنسب كبيرة لم تحدث بالعالم، وبحسب ديب نحن مطالبون اليوم بإيجاد تناغم بين الاستيراد والتصدير وبين التجارة الداخلية وانسياب السلع بغير الآليات المتبعة، لأنها لم تعد تناسب الأسواق والعمل بالآلية نفسها -كالذي يفسّر الماء بعد جهد بالماء- والمطلوب اليوم هو التغيير في الرؤية والنهج بما يتعلق بالاستيراد والتصدير والتجارة الداخلية، وخلق موازنة ومحاولة ربطها بالداخل.
عدم مبالاة
ولأن مشكلات ومعوقات التجارة الداخلية تختلف عن الخارجية، وجد محمد كوسا “خبير اقتصادي” أنه من الضروري معالجة التقرحات في التجارة الداخلية أولاً والتي لا زالت نائمة في العسل تجاه تضارب الأسعار والحالة الهيستيرية التي تعيشها أسواقنا وسط عدم مبالاة وزارتي الاقتصاد والتجارة الداخلية في ضرورة خلق ظروف واستراتيجيات وسياسات وبيئة عمل اقتصادية صحيحة تنعكس على التجارة الداخلية. ويرى كوسا أن غياب أو إغفال وزارة التجارة الداخلية الاطلاع على حركة البضائع يومياً للاستفادة منها في اتخاذ قراراتها سبب مهمّ في الخلخلة الحاصلة في التجارة، إضافة إلى عدم ضبط التجارة الداخلية نتيجة الحالة النفسية للتجار والمنتجين والمواطنين الذين هم اللاعب الأساسي في حركة السوق، فتأثر التّجار بالشائعات كما حصل الشهر الفائت مع بداية الحرب الأوكرانية واتخاذهم خطوات استباقية أدى إلى ضياع المواطن في فوضى ارتفاع الأسعار، إضافة إلى غياب دور الدولة في ضبط الأسواق وحلّ الخلافات بين التّجار، ولاسيّما أن واقع التجارة اليوم تحكمه الفوضى بسبب مجموعة من المتسلقين الفوضويين والمُضاربين بالأموال والذين لا يمتلكون الخبرة بالعمل التجاري في ظل غياب فكر تجاري وافتقادنا لـ”شيوخ الكار”. ويرى كوسا أن فتح باب التصدير لم يخلق مشكلات في السوق المحلية بل عدم فتح باب للاستثمار الحقيقي ومواقع إنتاجية جديدة هو ما نعاني منه، خاصّة وأنّ التصدير ينحصر ببعض السلع الخام والمحاصيل الزراعية والسلع التي لا تمتلك قيماً مضافة كبيرة.
ويبقى أن نقول.. بتنا بأمسّ الحاجة لتحليل الواقع غير المرضي لتجارتنا الداخلية والخارجية والمؤشرات الكمية، لأن ذلك يساعد في تفسير المؤشرات الكمية لها وتحليل تلك المؤشرات يساعد على تفسير الوضع الراهن، ولعلّ الآراء السابقة حدّدت بشكل واضح المشكلة وأسبابها، فمتى نفكر خارج الصندوق لإبداع الحلول؟.
ميس بركات