بين اثنين
عبد الكريم النّاعم
في الفترة التي انتشر فيها الصقيع الذي تقول إنّه قادم مباشرة من القطب الشمالي، قُرع الباب، فتحتُه ففوجئت بصديقين قديمين لم أرهما منذ زمن طويل، رحّبتُ بهما وجلسنا، فقال الأوّل: “يا أخي ما هذا البرد؟ أكاد أجزم أنّنا لم نمرّ بمثله من قبل”.
أجابه الثاني: “ما أظنّ أنّنا لم نمرّ بمثله، لقد مرّ بنا ما يُشبه هذا، إن لم يكن أشدّ، ولكنْ لم تكن وسائل التدفئة مُفتقَدة كما هي الآن”.
أجابه: “هذا أنت لم تستطع تغيير شيء من طباعك، تحبّ المُناكفة للمناكفة، يبدو أنّك لا تجد نفسك إلاّ إذا وقفتَ على الضفّة الأخرى”.
ردّ عليه بكثير من اللّين والودّ: “لقد صرنا في المرحلة الأخيرة من العمر، وأعرفك وتعرفني جيّداً، ورغم اختلافنا في كثير من الأمور فقد ظللنا نحافظ على هذه الصداقة الدّافئة، ولكنّ هذا لا يمنع أن تختلف وجهات نظرنا، في المسائل القابلة للاختلاف، دون أن نُفسد للودّ قضيّة.
حتى لو مررْنا بما يُشبه هذا فإنّ الإنسان ابن لحظته، ما فات مات، ولو استرجعْنا بعضه بشكل مقصود، أو جاء هكذا مُفاجئاً، فإنّنا نسترجع الحدّث، وباسترجاعه ليس ثمّة مشاعر، بل مجرّد ذكرى، أو تذكّر، وبهذا المعنى فكل جديد هو جديد، أمّا الماضي فقد انتهى، وربّما استحضر الدماغ بعض ما لا تريد، ألا يحدث معك أن تكون جالساً، أو قبل النّوم، فإذا بالدّماغ يستحضر ذكرى تتمنّى لو تستطيع مسْحها..”.
قاطعه: “أتقصد العقل”؟.
أجابه: “لا، أنا قلتُ الدّماغ، فهو آلة عجيبة غريبة مُدهشة، لا تعرف كيف يُفاجئك، وأنا مع الذين يرون أنّ “الدّماغ” غير “العقل”، فالدّماغ ماديّ، ملموس، بينما العقل خفيّ روحانيّ، ويُعجبني قول لأحد الأئمّة في هذا المجال، حول العقل “العقل آلةٌ أُعطيناها لإقامة العبوديّة، لا لإدراك الربوبيّة”، سمّاه آلة، ولكنّها آلة روحانيّة، وهنا أستحضر مقطعاً شعريّاً لهذا الذي يجالسنا، يقول فيه “هذي المسافةُ بينَ العقلِ والقلبِ ولا يجتازها إلاّ نبيٌ أو وليٌّ، وأنا لهفةُ شاعرْ”، وتوجّه إليّ بالسؤال “هل تذكر هذا المقطع، قلتُ بلى أذكره جيّداً”، قاطعه: “أين سرحتَ بنا يا رجل”؟!!.
أجابه: “لقد استدعت الأفكار بعضها، فاعذرني”.
قال: “كم من الشقاء يُعاني غالبيّة الناس، بل أكاد أقول إنّ خمسة وتسعين بالمئة من أبناء بلدنا يعيشون في حالة بالغة الصعوبة، وربّما كنّا ننتظر انفراجاً ما، في أكثر من مساحة، فاندلعت الحرب الأوكرانيّة، والتي خلقتْ تعقيدات، وصعوبات جديدة، وهي حرب كما ترى لا نعلم كم ستدوم، ولا بدّ أن تنعكس علينا، فهي ستترك آثارها على مستوى العالم ككلّ..”.
قاطعه: “تُرى هل يشعر أهلُ الخمسة بالمئة الذين استثنيتهم بآلام الغالبيّة”؟.
أجاب: “ما أظنّ ذلك، لأن الوجع لا يؤلم إلاّ صاحبه، فإذا كانوا قادرين على تأمين وسائل التدفئة، وهم قادرون مهما بلغ ثمنها، وإذا كانت بيوتهم مُنارة ليلاً نهاراً، ولديهم من الأموال، ما يكفي أبناء أحفادهم، فهل يشعر مَن يجلس بجانب “الشّوفاج” بالذي لم يعرف نعمة الدفء في الزمهرير”؟!!.
قاطعه: “أنت ترى أنّ الأزمة طويلة، بينما لهفة الناس وأمانيها قائمة على اختصارها”.
أجابه: “ليست بالأماني، إذا كان الأمر سينعكس على العالم كلّه، فكيف بنا نحن الذين لم نخرج بعد من ركام الخراب الذي خلّفتْه الحرب التي أداروها فوق أرضنا، كما يديرونها في أوكرانيا..”.
قاطعه: “إذنْ لا أمل”..
أجابه: “لا بدّ من أمل، إذ لا حياة مع اليأس، لأنّ اليأس استسلام وموت..”.
aaalnaem@gmail.com