تداعيات العقوبات الاقتصادية تفصح عن نفسها
ريا خوري
بدأت ملامح العقوبات الاقتصادية ترتد على دول الاتحاد الأوروبي، وطالت الأضرار مجالات متعددة اقتصادياً، وأمنياً، وسياسياً. وما من شك في أن أكثر النخب السياسية الأوروبية تعرف تلك الأضرار وانعكاساتها على المستقبل، ولكن ضغوط السياسة الهائلة، وقهرية التزامات أوروبا مع الولايات المتحدة الأمريكية، تفرض عليها أن تخوض في سياسات مناوئة لجمهورية روسيا الاتحادية. وليس في هذا تبرير لسياسات دول الاتحاد الأوروبي أو هروب من المسؤولية بمقدار ما هو محاولة لفهم حالة الاضطرار التي تجد سياسات تلك الدول نفسها فيها اليوم.
الواضح تماماً أن ميدان المعارك العسكرية اليوم هو قلب أوروبا ومركزها، وبالتالي فإن أمن دولها وشعوبها يتأثّر بما يجري أكثر من غيره، لأنه ليس شرطاً أن تدخل الدبابات الروسية إلى شرق أوروبا وغربها لكي يُصاب ذلك الأمن في مقتل، إذ تكفي ارتدادات العقوبات الاقتصادية واستطالاتها، وموجات اللجوء لملايين الأوكرانيين على أراضيها لكي تنال من الأمن الاقتصادي والغذائي والاجتماعي وحتى الثقافي لبلدانها. والمفارقة أن دول القارة الأوروبية تقدم مساهمتها في تنمية أسباب استفحال هذه المشكلات الكبيرة التي تضغط على أمنها واستقرارها الداخلي.
ومن نافل القول إن سلاح العقوبات الاقتصادية سلاح ذو حدين، وقد دلت التجارب في التاريخ على خطر هذا السلاح وانعكاساته السلبية على المعاقب والمُعاقب، وهكذا لن يكون لانخراط دول الاتحاد الأوروبي في سياسات العقوبات على روسيا أثر أحادي، وهذا ما يدركه عدد من الدول، فيما تندفع دول أخرى دون تدقيق وعقلانية وراء سياسة العقوبات غير مبالية – ربما – بما سيرتد منها من نتائج سلبية على احتياجاتها من الطاقة والغذاء، وما سينجم عن ذلك من أزمات اجتماعية حادة ونزيف مالي، وخسائر اقتصادية، وغلاء فاحشِ. وبالفعل فقد شرعت هذه التداعيات الاقتصادية في الإفصاح عن نفسها في القارة الأوروبية منذ الأسبوع الثاني من بدء تطبيق العقوبات على روسيا، وهي – قطعاً – ستزداد مع الزمن.
في هذا السياق، سيصاب الاقتصاد الأمريكي، كما أوروبا، بضرر كبير إذا ما استمرت الأزمة على هذا النحو، واستمرت معها سياسة العقوبات المفروضة على روسيا ليس لأن اقتصاد الولايات المتحدة قادر نوعاً ما على استيعاب الأزمات أكثر من نظرائه الأوروبيين فحسب، بل لأن الاقتصاد الأمريكي سيعاني هو الآخر العديد من الأزمات الحادة على الصعيد الداخلي والدولي. صحيح أنه ليس هناك ارتباط بين الاقتصاد الأمريكي والاقتصاد الروسي، إلا أن أمريكا لن تتمكن من سداد النقص بالطاقة والغذاء التي كانت روسيا تقدمه للعديد من دول العالم، ناهيك عن الارتفاعات الكبيرة وغير المسبوقة في أسعار الطاقة.
من المؤكد أن الولايات المتحدة تخوض حربها في قلب أوروبا لمواجهة روسيا مستخدمةً أوكرانيا، وأن دول الاتحاد الأوروبي هي التي تتلقى الضربات الاقتصادية. وعلى ذلك، لا زالت واشنطن توحي للأوروبيين بأن تحجيم روسيا مشروع يصب في مصلحة حماية دول (الناتو) وتعزيز أمنه حتى ولو على حساب الأمن الأوروبي، لهذا لا يمكن رد خطر ذلك إلا بتفاهم روسي- أوروبي لحماية أمن القارة الأوروبية من الأخطار المحدقة والتي ممكن أن تتفاقم بشكل خطير.