أم كلثوم وعبد الحليم وفاتن حمامة لوحات سينوغرافية
حلب – غالية خوجة
تترسّب في الذاكرة مشاهد فنية مميزة من الأعمال الإبداعية، سواء من قصيدة، قصة، تشكيل، نحت، أو تعامل إنساني فني، ما يجعلها في مدار حيّ من أعماقنا، ومنها السينوغرافيا التي نصادفها مع يومياتنا وتترك أثرها الجميل الذي لا يزول.
كثير من أبناء جيلنا يذكر كيف كانت السينوغرافيا في المسارح، أو دُور السينما، ذات بهاء خاص، ومنها سينما فريال، غرناطة، الحمراء، فؤاد. ولم تقتصر السينوغرافيا على الأعمال الفنية المعروضة من مسرحيات وأفلام، بل، كذلك، امتدت إلى الديكور الخاص بالمكان، سواء صالات السينما أو منصات المسارح، لتجذب محبّي هذه الفنون وتجعلهم يشعرون وكأنهم في كوكب فني من خلال العوامل والعناصر المختلفة مثل الإضاءة، الفرش، الأثاث، الزركشات، الجدران، السقف، المصابيح والقناديل والثريات، السجاد، الموسيقا، واللوحات، وجميعها موظف بطريقة متناغمة لتهيّئ الحضور لجاذبية جادة في حياة يشاهدها على الجانب الآخر من الحياة عبْر منصة أبي الفنون أو شاشة الفن السابع، أو شاشة العرض اليدوية التي تظهر المحتوى على الحائط، وكم كان أبي – رحمه الله – مهووساً بهذه الفنون لدرجة أن جيران الحيّ أطلقوا على بيتنا إذاعة “أبو محمود”، وهو عنوان إحدى مسرحيات د. وانيس بندك التي استمد شخصيتها الأساسية من أبي وتصرف بها تبعاً لأهداف النص والعرض.
هذه بعض التداعيات التي حضرتني وأنا أرى مجموعة من الكراسي العتيقة العريقة وهي تعيدني إلى طفولتي مع أبي بين المسرح والسينما ومدينة حلب القديمة. هذه الكراسي الجذابة بلوحاتها وصورها الفنية المطلّة عليك من جهتها الخلفية، تجعلك تنظر إلى شخصية “البورتريه” وهي تنظر إليك لتحكي سيرتها، فتستوقفك برهة مستذكراً كيف مرت أم كلثوم بمراحل بدأتها من الإنشاد واختتمتها بلقبها كوكب الشرق، وكيف ما زال صوتها يصدح من صالة الشهبندر بحلب، كما يصدح من أسطوانة ما مركونة في خلايا دماغك ليأخذك مع ذكرياتك إلى “أغداً ألقاك”، “أنت عمري”، “أمل حياتي”، “شمس الأصيل”، “رباعيات الخيام”، “أنساك”.
بينما يطلّ عليك وجه عبد الحليم حافظ بابتسامته الطالعة من اليُتم، والألم، ثم من النجاح الذي لقبه بـ”العندليب الأسمر”، وكيف جعل من التفاؤل منطلقاً لإرادته ليكمل مشواره الفني بين “دقوا الشماسي”، و”سواح”، وكيف كان ينافس المتفرد فريد الأطرش لدرجة أنه أصرّ على إقامة إحدى حفلاته في اليوم ذاته من حفلة الأطرش الذي غنّى القصيدة ولحّن وكان ملك العود المنتصر.
وإذا نظرت إلى كرسي آخر من الكراسي المنضودة أمامك وكأنها تنشد لصباح فخري “اللؤلؤ المنضود”، لشاعرها د. جلال الدهان، ترى وجه فاتن حمامة الشهيرة بسيدة الشاشة العربية، وهو يتأمل شيئاً ما بين ابتسامة جادة وملامح تتجاوز الصعاب وهي تستعد لدورها في فيلم “لحن الخلود”، أو تركض وراء أولادها في فيلم “إمبراطورية ميم”، أو صراخها الجريح في فيلم “أريد حلاً”.
تمرّ الوجوه أمامك لتظهر أشرطتها في ذاكرتك، وأنت تتابع وجه سعاد حسني سندريلا السينما العربية، بما يخفيه من الحزن الغامض الذي عرفته لوحة “الموناليزا”، وذلك رغم حيويتها في أغانيها وأفلامها، وابتسامتها الجذابة وروحها المرحة وهي تمثل فيلم “خلّي بالك من زوزو”، وتغني “يا واد يا تقيل”.
الكراسي الفنية تجعلنا نتساءل عن الزمن الجميل ومعالمه وتضاريسه التي تجعل العائلة تذهب إلى أبي الفنون لتتعلم الحياة، وتذهب إلى السينما لتكتشف المزيد من الوعي بالوجود، وعن تحولات الزمن المعاصر الذي صار يأخذنا وعبْر أجهزة التكنولوجيا الحديثة إلى شاشة نتوحد معها دون أن نرى المكان الواقعي بفنياته وتفاصيله، دون أن نرى الجيران والمعارف والأقرباء والأصدقاء وهم يجلسون على تلك الكراسي وكل واحد منهم ينظر إلى الوجوه واللوحات الفنية وهي تنظر إليه لتحكي له الحكايات عن حياتها وحياته، عن مسيرتها الفنية والحياتية، وعن دموع الحاضرات وهم يبكون من مشهد إنساني يمرّ من الشاشة، أو سعداء منتصرين لأن بطل العمل انتصر بالحق والحب.
الجميع يغادر، لكن الوجوه الملتصقة بالكراسي لا تغادر، بل تتابع نظراتها المغادرين وهم يصافحون معارفهم، ويتحدثون عن العرض أو الفيلم، وترى الأطفال يحملون أكياس “البوشار” “البذور”، و”الشوكولا”، وزجاجات “الكازوز” المحلي بألوانه الحمراء والبيضاء والبرتقالية، وسعادة الحضور الجماعي واضحة على وجوههم وحواراتهم أثناء سيرهم في الشوارع وهم عائدون إلى البيوت.
الوجوه الفنية المحلية والعربية والأجنبية المختلفة ما تزال تزين الكراسي بيننا في حلب، وهي تنظر إلينا وكأنها تخبرنا عن انتظارها لعرض أعمالها في اليوم التالي الذي انتظرته أزمنة كثيرة، لكنها مع مرور الوقت ستدرك أننا جلسنا للاستماع لندوة ثقافية، وتدرك أنني رأيت ما تفكر به فكتبته وأنا أصغي لذاكرتي التي شغّلت في آن واحد أغاني أم كلثوم وعبد الحليم حافظ وسعاد حسني في باحة بيتنا العربي القديم وهو يفوح بالموسيقا الممزوجة مع عطور الورود الملونة والياسمين الأصفر والأبيض، والوردة الجورية التي كانت أمي رحمها الله تزيّن بها شعرها كل يوم على الطريقة الأندلسية.