الصفحة الاخيرةصحيفة البعث

ظاهرة التّدافع

عبد الكريم النّاعم

قال لمُحدّثه: “لفتَني في تقليبي للأمور الجارية، ومقارنتها بما عرفتُه من حوادث التاريخ، أنّ المجتمعات البشريّة، في كلّ أدوارها، وأطوارها، كانت جيّاشة بالتّدافع، والذي يكون سلميّاً في بعض مظاهره، ومسلّحاً في مظاهر أخرى، فهل ترى ذلك”؟

أجابه: “ذلك قانون كوني اجتماعي في رأي علماء الاجتماع، هذا العلم الذي افتتحه بنباهة ابن خلدون، وتابع فيه علماء مُحدَثون كانوا أكثر اطّلاعاً، وأغزر علماً، بحكم تطوّر المعارف البشريّة، ولا يغيبنّ عن البال أنّ ذلك، بتجلّيه الإنساني هو خاص بالإنسان، فأنت لا تجد ذلك في المجتمعات الحيوانيّة، ورأى هؤلاء العلماء أنّ ذلك ضرورة إيجابيّة في بعض مقاطعه، كتدافع أصحاب الحرف، فكلّ يريد تطوير عمله إلى الأحسن ليُقبل الناس على شرائه، كما أنّ تدافع الأحزاب في البلدان المتقدّمة للوصول إلى السلطة ليس إلاّ صورة من صور التدافع، وصلوا إليها ليكون التدافع سلميّا لا حربيّاً..”.

قاطعه: “ولكنّ ما نشهده لا يتناسب مع تلك الصورة التي ترسمها عن تدافع البلدان المتقدّمة، فها هي الحرب في أوكرانيا أحد الشواهد، وانحياز الغرب فيها انحياز أعمى للنازيين الأوكران”؟!!.

أجابه: “لقد نقلتَنا من ميدان إلى آخر، ولكنّه لم يخرج عن روح الموضوع، إنّ ما يجري في أوكرانيا لا يخرج عن حدود مفهوم التّدافع، متّخذاً الحرب طريقاً له، واسمح لي بمعترضة، فقد أشار القرآن الكريم إلى هذه الظّاهرة، فقد جاء في القرآن الكريم قوله عزّ وجلّ (وَلولا دَفْعُ اللهِ النّاسَ بعضَهم ببعضٍ لَفَسَدت الأرض)، وما يجري في أوكرانيا أحد هذه التّجسّدات، لا أعرف ما إذا كنتَ قد شاهدتَ المؤتمر الصحفي للرئيس بوتين، ولرئيس جمهوريّة بيلاروسيا، لقد قال الرئيس البيلاروسي ما معناه، لو لم تقم موسكو بما قامت به من ضربة استباقيّة لكان القتال الآن في شوارع موسكو، وهذا يعني أنّ روسيا دفعتْ عن نفسها خطر النّازيّين الأوكران، مدعومين من واشنطن ومن الصهيونيّة العالميّة، ويكفي العاقل المُتابع لمجريات التاريخ القريب والبعيد أن يعرف أين تقف واشنطن، وتوابعها ليُدرك أين هو الحقّ، إذْ أنّ واشنطن ومَن معها عودونا أنّهم لا يقفون إلاّ في جانب الباطل..”.

قاطعه: “هل ترى في الحرب، رغم دمارها، وخرابها، ومآسيها الفرديّة والاجتماعيّة،.. هل ترى فيها جانباً حقّانيّاً”؟.

أجابه: “لن أدخل في هذه المساحة قبل أن أشير إلى أنّ التاريخ البشريّ هو تاريخ حروب وتدافع، وليس ما نشهده من توقّف القتال، ولو لفترات زمنيّة، إلاّ هدنة بين حربين، وهذا ما يؤكّد شموليّة ظاهرة التدافع، أمّا الحقّانيّة والأخلاق في الحرب فذلك يُحكَم عليه من معرفة هدف كلّ طرف، وها نحن، على سبيل المثال نشهد تدافعاً منذ أكثر من سبعين عاماً فوق أرض فلسطين المحتلّة، فهل نساوي بين الصهيوني والغازي المحتلّ القادم من شتات العالم ليستوطن أرضاً ليست له؟!!..

على هذا يمكن القياس، نعم الحرب دمار وخراب وتشريد، وحين تكون حقانيّة فإنّها تدفع الشرّ عن نفسها، وعن غيرها، هل يمكن أن نعتبر العمليّة الاستشهاديّة في فلسطين، مثلها مثل مَن يقتحم الأقصى، ويقتل، ويهدم البيوت؟!! كلاهما من حيث التدمير، والضرر واحد، ولكنّ أحدهما يدفع الضرر عن نفسه، فيحمي بذلك نفسه وكلّ المُهدَّدين من قبل هذا العدو، والآخر يقتل لإبادة شعب، وإحلال مجموعات من الناس مُستقدَمة من جهات الأرض، لتحلّ محلّها!”.

قاطعه: “أليس للفوز في المعركة ما يجعلها أخلاقيّة”؟.

أجابه: “ثمّة فرق بين أن تفوز وألا تعمل إلاّ ما هو أخلاقي، اللصوص يفوزون، فهل فوزهم يخلع عليهم جانباً أخلاقيّاً؟!!.. الأخلاقي يا صديقي هو ما ينفع الناس”.

aaalnaem@gmail.com