فوز ماكرون.. خسارة فرنسا
أحمد حسن
فاز ايمانويل ماكرون .. خسرت فرنسا. المفارقة أنه لو حدث العكس وفازت مارين لوبن لكانت النتيجة هي ذاتها: خسارة فرنسا أيضاً، وتلك المفارقة تحديداً تمثل أصدق انعكاس لصورة بلد نابليون وموقعها في عالم اليوم. دولة باتت تعاني كثيراً وهي تبحث عن مجد لا أثر له.
ففرنسا، وتحديداً جمهوريتها الخامسة التي انطلقت عام 1958، مع رجل مثل شارل ديغول، بشخصه وموقعه ورمزيته، لم تجد، في العقد الثالث من القرن الحادي والعشرين، بدّاً من التجديد لشخص يراه الفرنسيون أنفسهم “متكبراً” ومنقطعاً عن العالم الحقيقي، والأهمّ من ذلك كلّه يظهر – وهو رئيس كل الفرنسيين كما ينبغي وكما يقول – ازدراء علنياً للطبقة العاملة، ويصف بعض مواطنيه الفقراء “بأنهم أشخاص لا قيمة لهم”.
السوابق الرئاسية من أمثال هولاند وساركوزي كانت تقول بما لا يقبل الشك أن ذلك الطريق الفرنسي “النازل” سيصل إلى ماكرون حكماً، وقبل هؤلاء كان جاك شيراك، آخر الكبار برأي البعض، قد أطلق رصاصة البدء في سباق الانحدار مذ خضع، بعد عام 2003، لواشنطن نهائياً، وألغى ذلك الفاصل بينهما، والذي كان.. فرنسا الحقيقية ذاتها.
إذاً، فرنسا المتراجعة تنتج هذه النوعية من السياسيين والرؤساء، وهم، بالمقابل، يعيدون انتاجها و”تدويرها” نزولاً وانحطاطاً، ربما عن “وعي” بعدم إمكانية استعادة “عظمتها”، وبالتالي لا “حل” أمامهم إلا خوض معارك زائفة أو مستحيلة، وبالطبع لم يخرج ماكرون عن هذا السياق، فالرجل الذي تجاهل كل أزمات فرنسا الداخلية (التضخّم، ارتفاع تكاليف المعيشة، تفاقم مشكلات الهجرة واللاجئين، وانتشار الجريمة وتردّي هيبة القانون) وجد أن “مجده” يكمن في زعامة أوروبا، لكنه غفل عن حقيقة أن لواء زعامة القارة العجوز معقود، ومنذ زمن طويل، لواشنطن، وأن ما بقي له ليس إلا المنافسة مع المانيا، وخاصة في عهد مستشارها الحالي، على منصب الوكيل ودور حامل الرسائل الأمريكية حصراً، فكل محاولاته للظهور بصورة المستقل مُنيت بالفشل، استثناءه بتلك الطريقة المهينة من تحالف “أوكوس” كان دليلاً، فشله، أو بالحقيقة إفشاله، في لبنان – رغم تقمصه في الاجتماع الشهير بـ “قصر الصنوبر” صورة الأب القاسي وأستاذ المدرسة الحازم في الآن ذاته – دليلاً آخر، انسحاباته المتتالية من أفريقيا، وهي ملعب فرنسا التاريخي، دليلاً ثالثاً، مصاعبه الداخلية أخطر، وأكثر دلالة من كل ما سبق، فليس عابراً أن تحقق “لوبن” “أعلى نتيجة لمرشح يميني متطرّف في انتخابات رئاسية منذ تأسيس الجمهورية الخامسة”، وليس عابراً أن تكون نسبة الامتناع عن التصويت هي الأعلى في دورة ثانية من الانتخابات الرئاسية منذ 1969.
وبالمحصلة فوزه “بهذا الهامش الضئيل” سيعني تزايد احتمالات فقدانه الأغلبية في الانتخابات البرلمانية التي ستجري بعد شهرين، وبالتالي اهتزاز سيطرته على “مفاصل السلطة”، والأخطر من كل ذلك أن التوجهات الماكرونية أوصلت الغالبية إلى القول بأنها لم تعد تشعر بأنها “في وطنها” في فرنسا، وإن “الأمّة الفرنسية في انحدار”.
كل هذا الفشل والانحدار، ودلائلهما وصورهما، في الداخل والخارج، لا تسمح له بالانفراد، كما يحلم، بحل معضلة أوروبا والعالم: أوكرانيا، خاصة وأن الطرف الآخر هو القيصر الذي يعرف جيداً أن معركته ونتائجها تتوقف على واشنطن ذاتها وليس على عواصم طرفية مهما كبر حجمها وعظمت أحلام قادتها.
بيد أن المسألة أبعد من فرنسا ذاتها. انتخابات فرنسا ونتيجتها ستؤثر على جميع مواطني الاتحاد الأوروبي البالغ عددهم 400 مليون، وهي تقول مع مثيلاتها في دول أوروبية أخرى أن اليمين، واليمين المتطرف، يربح أكثر فأكثر، وبالتالي فرنسا ليست وحدها في خطر. فكرة أوروبا الموحدة ذاتها في خطر أيضاً.
خلاصة القول، فوز ماكرون والملابسات التي رافقته والتي ستطبع ولايته الجديدة حكماً بسماتها الخاصة، دليل ساطع على “مرض” فرنسي عضال. احتفاء أوروبا الحافل بهذا الفوز – وهي التي أنجبت مترنيخ وبسمارك وديغول و.. – دليل على عطب أوروبي أيضاً، عطب كبير.. وقاتل.