“الاستقلال الذاتيّ الاستراتيجيّ الأوروبيّ” وتقييم مدى “تاريخانية” إعلان فرسايّ (2022)
بدايةً، التاريخانيّة تشير في أحد مدلولاتها إلى “عدم إدراك العقل البشريّ إلاّ ما يصنع”، ولأنّ المشروع الأوروبيّ للاستقلال الذاتيّ الاستراتيجيّ هو “عقليةٌ” جديدةٌ، انطلق المقال في توصيف إعلان فرساي (2022) باللحظة التاريخانية، المؤسِسة لقطعٍ سياسيٍّ تاريخيٍّ، نحو تصحيح الأوروبيين للتاريخ الخاص بهم نحو صناعة مستقبلهم الذاتيّ بعيداً عن هيمنة واشنطن، فلعقودٍ خلت تمتد من نهاية الحرب العالمية الثانية (1945) وأوروبا تعتمد على الولايات المتحدة في ضمان أمنها، وحتى مع نهاية الحرب الباردة (1991)، لم تبدِ أوروبا استعداداً للاستثمار في القدرات العسكرية لضمان أمنها المشترك، رغم أنّ معاهدة ماستريخت (1992) التي أسست الاتحاد تضمنت إمكانية الدفاع الاستراتيجيّ الذاتيّ، إلّا أنّ التغيرات الكبرى في العالم مع بداية العقد الثاني مع القرن الواحد والعشرين قد لعبت دوراً بارزاً في إعادة طرح الضمانات الأمنية لأوروبا، ومثّلت حقبة الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب (2016 – 2021) (أميركاً أولاً)، وتجاهله العلنيّ لحلف شمال الأطلسي، ونسفه الاتفاق النوويّ الإيرانيّ خارج إطار (مجموعة 5+1) إلى موجةٍ صادمةٍ في العواصم الأوروبية، تفاقمت مع خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبيّ (2016 / 2019)، وتعززت مع الانسحاب الأميركيّ من أفغانستان (2021)، والتي بمجملها أعادت النقاشات والجدل حول الاستقلال الذاتيّ الاستراتيجيّ الأوروبيّ (European Strategic Autonomy)، الذي يُشكّل جزءًا من (الاستراتيجية العالمية للاتحاد الأوروبيّ) (EUGS)، وأضحى باستمرار إطارًا مهيمنًا يوجه تطلعات الاتحاد الأوروبيّ للعب دورٍ عالميٍّ في السنوات المقبلة، مع اتجاه الأحادية القطبية إلى الأفول، كما أنّها تُعدّ استجابةً للتطور الداخليّ للاتحاد الأوروبيّ وللتحولات العميقة في النظام الدوليّ. ورغم ذلك، فإنّ الدافع إلى الاستقلال الذاتيّ جزءٌ لا يتجزأ من “وجودية” المشروع الأوروبي ذاتها، فالاتحاد الأوروبي وُلد وتطور على مرّ العقود ككيانٍ قائمٍ على القواعد، لذلك تُعدّ حماية معاييره الداخلية وتعزيز نظامٍ دوليٍّ متعددٍ أمرًا وجوديًا، باعتباره جزءاً محورياً من العقيدة المحدّثة للاتحاد الأوروبي لتحسين فعالية الدفاع والأمن للاتحاد والدول الأعضاء فيه، وحماية المدنيين، والتعاون بين القوات المسلحة للدول الأعضاء، وإدارة الهجرة، والأزمات وما إلى ذلك، تم اعتمادها في 28 حزيران 2016، بعد أن تم طرحه والموافقة عليه لأول مرةٍ من قبل المجلس الأوروبيّ في تشرين الثاني 2013، ليتم تطويره لاحقًا في الاستراتيجية العالمية للاتحاد، والتي تمت الموافقة على تنفيذها بالإجماع من قبل 28 دولةٍ عضوٍ (بما في ذلك المملكة المتحدة قبل بريكست) في تشرين الثاني 2016، وهيّ تحلّ محلّ استراتيجية الأمن الأوروبية لعام 2003.
ينطلق مفهوم الاستقلال الاستراتيجيّ الأوروبيّ من القدرة الأوروبية على تحديد الأولويات واتخاذ القرارات في مسائل السياسة الخارجية والأمن، جنبًا إلى جنب مع الوسائل المؤسسية والسياسية والمادية لتنفيذها بالتعاون مع أطرافٍ ثالثة، وإذا تعذر فأوروبا بمفردها، بمعنى: قدرة الاتحاد الأوروبيّ على الدفاع عن أوروبا كاملة والعمل عسكريًا في جوارها دون الاعتماد كثيرًا على الولايات المتحدة، ويشمل هذا الفهم النطاق الكامل للسياسة الخارجية والأمن، وليس فقط بُعد الدفاع الاستراتيجي، طبعاً تسمح معاهدة لشبونة للاتحاد الأوروبي (2007) المحدثة عن ماستريخت، بوضع سياسةٍ دفاعيةٍ مشتركةٍ تدريجيًا، والتي يمكن أن تؤدي في النهاية إلى دفاعٍ جماعيٍّ، إلاّ أنّ الناتو في المستقبل المنظور سيظل مركزًا للدفاع عن الفضاء الأورو – أطلسي. ولأن الاستقلالية هيّ “عقليةٌ” قبل أن تكون سياسةٌ معلنةٌ، لابدّ من توفر خمسة مكوناتٍ أساسيةٍ لتلك العقلية: أولاً، يجب على الدول الأعضاء أن ترى في الاتحاد الأوروبي قوةً عظمى (الوعي الأوروبي بأوروبتيه القوية)، في ذات الدرجة مع الولايات المتحدة وروسيا والصين، ثانيًا، يجب على الاتحاد الأوروبي أن يأخذ زمام المبادرة في تحقيق الاستقرار في محيطه ولن يفعل ذلك أحد من أجله، ثالثًا، وصول القوة الأوروبية الخاصة إلى ما يصل 60 ألف جندي، رابعًا لا يمكن تحقيق الاستقلال الذاتيّ إلّا في إطار المجموعة الأوروبية وليس بعضٌ منها. أخيرًا، يتطلب الاستقلال الذاتيّ تكامل القوى الأوروبية، وليس فقط إمكانية التشغيل البينيّ للقوات المسلحة.
ونظراً لحساسية النقاشات المتعلقة بمدى علاقة الاستقلال الذاتيّ الاستراتيجيّ مع التعهدات الأوروبية في إطار الناتو، لابدّ من الإشارة إلى سلبيات وإيجابيات الطرح الأوروبيّ على أوروبا ذاتها، ففي إطار الإيجابيات ستعمل أوروبا على تحسين استعدادها الاستراتيجيّ العام للعمل، وأيضًا للمشاركة خارج إطار الناتو، ثانيًا، سيؤدي طرحها الذاتيّ إلى اهتمام واشنطن بأوروبا كشريكٍ وليس كتابع، ثالثاً، سيكون هناك أيضًا احتمالٌ لكسب دعم أعضاء الناتو الآخرين من خارج الاتحاد الأوروبي الذين يتمتعون بقدرات هائلة (ما بعد خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، وتركيا) لتعزيز الركيزة الأوروبية لحلف الناتو.
أمّا في إطار السلبيات، فإنّ دول أوروبا الوسطى والشرقية في الناتو على وجه الخصوص لديها ثقةٌ أكبر في الضمانات الثنائية لواشنطن مقارنةً بتضامن الاتحاد الأوروبي وقدراته الحالية والمستقبلية، فهذه الدول تخشى أن يؤدي التركيز على الاتحاد الأوروبي إلى إضعاف الحلف واستفزاز الولايات المتحدة، لهذا، فإنّ بعضها يشكك في تعزيز الركيزة الأوروبية لحلف شمال الأطلسي، ثانياً، إنّ الخطر الأكبر سيكون تجزئة العلاقات الأمنية داخل أوروبا، والاحتكاكات غير المقصودة مع الولايات المتحدة، فقد تسعى بعض الحكومات الأوروبية التي تميل إلى التشكك في الاتحاد الأوروبي إلى تعزيز علاقاتها الثنائية مع الولايات المتحدة كنوع من التأمين على المستقبل الاستراتيجي، مثل هذا التشرذم من شأنه أن يضعف استعداد أوروبا للعمل، ثالثاً، يخشى النيو ليبراليين والبلدان التي تربطها علاقاتٌ قويةٌ عبر الأطلسي من تحول الاستقلال الذاتيّ، إلى شعارٍ “شعبويّ” يفضي إلى “الحمائية”.
الحرب الأوكرانية (2022) وحسم الجدل حول “الاستقلال الاستراتيجي الأوروبي”
جادل العديد من السياسيين الأوروبيين (ماكرون، ميركل، تشارلز ميشيل..) في السنوات الأخيرة بأنّ الاتحاد الأوروبي بات أكثر عرضةً للصدمات الخارجية، لذلك لابدّ من تعزيز “استقلاليته الاستراتيجية” وتطوير درجةٍ أعلى من “السيادة الأوروبية”، وأتت العملية العسكرية الروسية الخاصة في أوكرانيا لتعطي هذه القضية إلحاحًا أكبر، خصوصاً في مجالي أمن الطاقة المستدام والدفاع، كما أعاد النقاشات حول تحديث البوصلة الاستراتيجية للاتحاد الأوروبيّ، وهيّ استراتيجية دفاعٍ وأمنٍ متوسطة المدى، تأخذ في الاعتبار أكبر نزاعٍ مسلحٍ في أوروبا منذ الحرب العالمية الثانية. وفي قمةٍ بارزةٍ في القصر الملكي في فرساي الفرنسية، اتفق 27 رئيس دولة وحكومة على أن الحرب الأوكرانية أظهرت الحاجة الملّحة للاتحاد الأوروبيّ لتحمل المسؤولية عن أمنه والتخلص من التبعية للآخرين (إعلان فرساي 10 و11 آذار 2022)، وأعطت طابعاً رسمياً لمشروع السيادة الأوروبية والاستقلال الاستراتيجيّ.
طبعاً هنالك رمزية “تاريخانية” للحدث لابدّ من فهمها، فالإعلان الأوروبيّ صدر من قصر فرساي الذي هو ذاته مكان التوقيع على معاهدة فرساي في العام 1919، وهي وثيقةٌ محوريةٌ أثبتت تاريخياً أنّها كانت مركزية في إعادة تشكيل أوروبا بعد الحرب العالمية الأولى (1919)، وبالتالي أرادت المجموعة الأوروبية إعادة تصحيح الخطأ التاريخي في فهم تلك المعاهدة (فالعودة هنا تداركيةٌ وليست زمنية). وبالعودة إلى إعلان فرسايّ فقد أقرت المجموعة الأوروبية في فرساي تحمل المزيد من المسؤولية عن أمن أوروبا، واتخاذ المزيد من الخطوات الحاسمة نحو بناء السيادة الأوروبية، وتقليل التبعية للآخرين (الناتو)، وتصميم نموذج نموٍ واستثمار جديد لعام 2030. وفي هذا الصدد قرروا مجتمعين: تعزيز قدرة أوروبا الدفاعية، وتقليل الاعتماد الأوروبيّ على الطاقة الخارجية، وبناء قاعدةٍ اقتصاديةٍ أكثر قوةً وتكامليةً، كما حسمت قمة فرساي (2022) الجدل حول العلاقة بين “مشروع الاستقلال الاستراتيجي الأوروبي” والناتو بتأكيدهم “أنّ الاتحاد الأوروبيّ القويّ والأكثر قدرةً في مجال الأمن والدفاع سيساهم بشكلٍ إيجابيٍّ في الأمن العالميّ وعبر الأطلسيّ، ويكمّل حلف الناتو الذي سيظل أساس الدفاع الجماعيّ لأعضائه”.
بالنتيجة والختام، مثّلت الحرب الأوكرانية فرصةً تاريخيةً لبعض الساسة الأوروبيين لتأكيد أهمية مشروع الاستقلال الاستراتيجيّ الأوروبيّ عن الناتو، وعدم ربط مصير أوروبا بأجندات واشنطن العالمية دون التخلي عن الحلف الذي سيبقى لفترةٍ ربما متوسطةٍ ركيزة الأمن الأوروبية، كما شكّلت هذه الحرب فرصةً لإقناع بعض المشككين من دول شرق ووسط أوروبا في “شرعية” فكرة الاستقلال الذاتيّ الاستراتيجيّ عن “الناتو”. وهنا تجدر الإشارة إلى أنّ أوروبا المستقلة عن الناتو استراتيجياً لا تبدو فكرةً سيئةً لروسيا والصين، لأنّ فيها بواباتٌ قد تفتح بين الجانبين بعيداً عن أجندات واشنطن العدائية للدولتين، رغم الخطاب المتوتر راهناً بسبب الحرب الأوكرانية، دون إغفال أنّ إحدى النهايتين قد بدأت، إمّا الناتو إذا نجح المشروع الأوروبي، أو الاتحاد الأوروبيّ إذا فشل الأوروبيون في صياغة رؤيةٍ موحدةٍ مستدامةٍ للاستقلال الاستراتيجيّ، وأرادت الولايات المتحدة إجهاضه.
الدكتور سومر صالح – دكتوراه في العلوم السياسية.