تحديات ماكرون.. الأيام القادمة لن تكون جيدة
عناية ناصر
على الرغم من إعادة انتخاب إيمانويل ماكرون لولاية ثانية، لكن الأداء القوي لمنافسته اليمينية المتطرفة مارين لوبن -أقوى منافسة له على الإطلاق- سيثير المتاعب في ولايته الثانية، وسيرسل إشارات تحذيرية إلى حلف شمال الأطلسي والاتحاد الأوروبي.
صحيح أن ماكرون حقق الفوز بهامش مريح، لكنه انتصار خيّمت عليه حقيقة أن منافسته المناهضة للهجرة، والتي تريد تحويل الاتحاد الأوروبي إلى “تحالف الدول الأوروبية”، حصلت على أصوات أكثر من أي مرشح يميني متطرف في تاريخ الجمهورية الفرنسية. وبلغة الأرقام، فقد اختار أكثر من 12 مليون شخص لوبن، وهو ما يزيد بنحو خمسة ملايين عن آخر ترشح لها للرئاسة، في عام 2017، وهي زيادة تشير إلى أن استراتيجيتها في محاولة إدخال حزبها إلى التيار السياسي السائد كانت ناجحة إلى حدّ كبير، كما أن هذه النتيجة تحمل أيضاً تحذيرات للاتحاد الأوروبي وحلف شمال الأطلسي، ففي خضم الحرب الروسية الأوكرانية أيدت شريحة كبيرة من الناخبين الفرنسيين مرشحة دعت إلى تشكيل تحالف مع موسكو، وإلى انسحاب فرنسا من حلف الناتو في حال فوزها.
لقد صوّت الملايين في إحدى الدول المؤسّسة للاتحاد الأوروبي لمرشح يدعو برنامجه الانتخابي إلى تفكيك الاتحاد الأوروبي من الداخل من خلال تعليق قواعد التنقل، وإلى التقليل من سيادة قانون الاتحاد الأوروبي. وقالت لوبن لمؤيديها في خطاب الهزيمة: “هذه النتيجة هي دلالة على عدم الثقة تجاه قادتنا وضد الزعماء الأوروبيين، وهي رسالة لا يمكنهم تجاهلها.. لقد أظهر الناخبون أنهم يريدون قوة معارضة قوية لماكرون”.
لذلك سينظر إلى أداء لوبن القوي على أنه تحذير لبروكسل التي لا تزال تعاني من تصويت بريطانيا لمغادرة الاتحاد الأوروبي، وتخوض معارك قضائية مع بولندا والمجر بشأن نزاعات حول سيادة القانون، لكن التحدي الأكثر إلحاحاً سيكون أمام ماكرون الذي يبدأ فترة ولايته الثانية في بلد منقسم بشدة، حيث يمكن أن يتحوّل الغضب السياسي بسهولة إلى احتجاجات في الشوارع وأعمال عنف، وقد اعترف ماكرون بهذه الانقسامات في “خطاب النصر” بقوله: “بلدنا مليء بالشكوك والانقسامات، لذا سنحتاج إلى أن نكون أقوياء”.
وعلى الرغم من أن التصويت يعني أن الاستمرارية ستسود في فرنسا، إلا أنه يظهر أيضاً أن الانقسامات التي ابتليت بها السياسة الفرنسية لعقود لم تتقلص، بل تزداد مع كل انتخابات متتالية، فقد وجّهت رئيسة حزب “التجمع الوطني”، التي تعافت من هزيمتها في عام 2017 ووسّعت بشكل كبير قاعدة حزبها، في “خطاب الهزيمة”، نبرة قتالية، وألمحت إلى أنها ستقود قواتها إلى المعركة عندما ينتخب الناخبون برلماناً فرنسياً جديداً في حزيران القادم، وقالت لوبن لأنصارها المبتهجين في بولوني، إحدى ضواحي باريس التي كانت تاريخياً مقراً لحزبها، “إنه نصر مذهل لنا”.
وفي إشارة إلى التحالفات المحتملة التي يمكن أن تعزّز قوة حزب لوبن بشكل أكبر، دعا المرشح الرئاسي اليميني المتطرف إريك زيمور، الذي خرج من الجولة الأولى من الانتخابات، إلى تشكيل “كتلة وطنية” توحد أنصاره وأنصار لوبن. وهذا التحالف ربما يكتب له النجاح لأسباب كثيرة، أهمها أن ماكرون حجّم قوى يسار الوسط ويمين الوسط السائدة خلال صعوده إلى السلطة، حيث أظهرت نتيجة الانتخابات أن الحزب الاشتراكي وحزب الجمهوريين اللذين كانا يتمتعان بنفوذ كبير في يوم من الأيام، لم يتمكنا من جمع أكثر من 5% من الأصوات في الجولة الأولى، وقد أدى انهيارهما إلى تسريع إعادة تشكيل المشهد السياسي الفرنسي بعيداً عن الانقسام بين اليمين واليسار، نحو الانقسام بين الشعبويين الوطنيين المناهضين للمؤسسة، والتقدميين الوسطيين الموالين لأوروبا.
ومع دخول ماكرون فترة ولايته الثانية، سيكون هناك الكثير من فرص الاحتجاج، خاصةً وأنه تمّ انتخاب الرئيس على أساس برنامج إصلاح معاشات الدولة، وتأجيل سن التقاعد من 62 إلى 64 أو 65 عاماً، وأيضاً إصلاح وإدخال المزيد من الاستقلالية في المدارس الفرنسية، وهو طموح سيضعه في مسار تصادمي مع نقابات المعلمين القوية في فرنسا. وربما تتكرّر الاحتجاجات التي جرت في ولاية ماكرون الأولى والتي لم تكن سهلة حين واجه جائحة كوفيد-19، واحتجاجات السترات الصفراء التي بدأت حول ضريبة الوقود. وقد تعهد هذه المرة، بأنه تعلم من الأخطاء، ووعد بأسلوب جديد يهدف إلى بناء توافق في الآراء للمضي قدماً في الإصلاحات.
ومن غير المرجح أن يتمتّع ماكرون بفترة راحة في بداية ولايته الثانية، إذ ارتفعت الدعوات لبدء ما يُعرف في فرنسا باسم “الجولة الثالثة الاجتماعية” من الانتخابات الرئاسية، التي تجري في الشوارع على شكل احتجاجات، فالناخبون اليساريون الذين صوتوا مكرهين لمصلحة ماكرون لإبعاد اليمين المتطرف عن السلطة لديهم دوافع خاصة لممارسة الضغط على إدارة ماكرون. لكن مع ارتفاع التضخم وأسعار الطاقة، يعتقد العديد من المراقبين أن البلاد تستعد لردّ فعل عنيف، فالجولة الثالثة ليست بعيدة، وخصوم ماكرون يستعدون بالفعل للمعركة قبل الانتخابات التشريعية في حزيران القادم، حيث يحتاج الرئيس إلى أغلبية في الجمعية الوطنية ليتمكن من المضي قدماً في إصلاحاته، ولا يُتوقع أن تكون حملته الانتخابية سهلة.
تقليدياً، يميل الناخبون الفرنسيون إلى التصويت بالطريقة نفسها في الانتخابات الرئاسية والتشريعية، بحيث لا يكون الرئيس المنتخب وحكومته على خلاف عندما يبدؤون فترة ولايتهم، لكن بالنسبة لليسار الفرنسي، فإن الانتخابات البرلمانية توفر فرصة للانتقام!.