فيروز لجأت إلى رياض السنباطي ليسد الفراغ الفني الذي تشكو منه
فيصل خرتش
فجأة دبَ الخلاف بين المطربة فيروز وزوجها عاصي الرحباني، وذلك في منتصف السبعينيات، وقد أدى هذا الخلاف إلى مرض عاصي الذي أصيب بانفجار في الدماغ، وبعد تماثله للشفاء، تفاقم الخلاف، وغادرت فيروز بيت الزوجية لتقيم عند أقاربها في بكفيام، وإليها توجه عاصي لآخر مرة ليرجوها العودة، لكنها رفضت وطالبت بالطلاق.
يقول مؤلف كتاب (السنباطي) الأستاذ صميم الشريف بأن هذا الخلاف الذي نشب بين هذا الثنائي الرائع، الذي أسعد ملايين العرب، شل النشاط الفني في المدرسة الرحبانية التي عاشت ورتعت ونهلت إبداعها من صوت فيروز، وبالتالي فإنها لم تكن لتستطيع الحياة خارج المدرسة الرحبانية العريقة التي أسهمت إسهاماَ فعلياَ في تطوير الأغنية، ونقلتها من مجرد أغنية غزلية عادية، إلى أغنية تتغنى بالوطن والحياة، وتلفتت فيروز حولها فوجدت نفسها معزولة، وفتش الرحابنة عن بديل لفيروز فلم يجدوا غايتهم إلا في بعض الأصوات التي تجيد التقليد أكثر مما تجيد الفن.
محمد عبد الوهاب والتي غنت عدداَ من روائعه، لجأت إليه، ولكنه أحجم عن ذلك، فالصداقة التي بين عاصي ومنصور أقوى من أن يخرقها بلحن يعطيه لفيروز، ومن هنا فكرت في رياض السنباطي، فهي لا تعرفه إلا من وراء ألحانه التي يعطيها للمطربين والمطربات، وهكذا بدأت الاتصالات، ووافق السنباطي على التلحين لها، لقاء خمسة آلاف جنيه للحن الواحد، على أن تغني ما يعطيها من ألحان بالأسلوب الذي يرتئيه، وكان ذلك في العام 1979، وقد أرسلت له قصيدتين من شعر جوزيف حرب، وقد سئل السنباطي عن ذلك، فأجاب: “أنا معجب بفيروز كمستمع، قبل أن أعجب بها كملحن”، وقد وصله من الشاعر جوزيف حرب قصيدة، يقول مطلعها:
بيني وبينك خمرة وأغانـــــي فاسكب فعمري في يديك ثواني
وما همني انطفأت نجوم بعدنا وتوقفت أرض عن الـــــدوران
فسارع إلى تلحينها، وبعد أن انتهى، سجل اللحن بصوته على شريط وأرسله إلى فيروز لتدرسه، أما القصيدة الثانية التي لم ينه تلحينها فهي “أمشي إليك” ويقول مطلعها:
أصابعي منك في أطرافها قبل قبلتهن فهن الجمر يشتعــــــــــــــل
بريد حبك في كفي تحملــــــه إليك خوف الضياع، العشرة الرسل
ثم شد الرحال إلى بيروت، وقد وصلها في السابع من أيار عام 1980، وكان في استقباله عدد كبير من الشخصيات الرسمية والفنية بمن فيهم فيروز، وكان هذا أول لقاء بينهما، وقد تمَ في فندق بريستول، ويقول السنباطي عن هذا اللقاء: “أول ما دخلت من الباب، تطلعت إلي بنظرة فيها معان كثيرة، رحبت بها، وجلست أتحدث معها في نواح كثيرة، فأنست لي، وهذا ما ساعدنا على التعاون الجميل فعلاَ في تنفيذ اللحن، وسئل السنباطي إذا كانت فيروز أعجبت باللحن، فأجاب: أعتقد ذلك، وإلا لما وافقت على إنشاده، وسيتم التسجيل في حزيران القادم في بيروت في حفلة كبيرة” وقال عن صوت فيروز: “بأنه كامل، ينطوي على خامة رائعة، وإحساس شفاف، وقدرة مذهلة على الأداء، وهي تصنف بين المطربات بأنها أفضلهن على الإطلاق”. وسئل ألم تلتقيا قبل هذه المرة، فأجاب: أبداَ في حياتي لم ترني، وفي حياتي لم أرها إلا على شاشة التلفزيون، أنا من عشاق صوتها، وأنا كرجل من الجمهور أحب الاستماع إليها جداَ ولدي عدد كبير من الأشرطة لأغنياتها وحفلاتها، إنها صوت ملائكي وإحساس مرهف من النادر أن يوجد في أي مطربة خلاقة اليوم، وأنا أحفظها لمست كم هي تبدع، وبينما هي تحفظ تقول لنفسك: إنها أعطت شيئاَ كأنه “حص” ألماس صاف ولامع، وكل التسجيلات لجلساتنا هنا، تشهد على ما أقوله، إعجابي بها كبير جداَ.
وقد قال في مؤتمر صحفي: إن عند فيروز مقامات في صوتها لم تطرق بعد سمع الجماهير، فيها طاقة صوتية، وأنا باللحن الذي وضعته لها أظهر هذه الطاقات منها، فعلا أنا أظهرت هذه الطبقات التي كانت لا تزال مخنوقة، سأتعبها، سأجعلها تغني وتتعب، طبقات عالية جداَ، ومضطر أن أعطي في اللحن لبعض الأبيات طبقات تناسب الكلام، المعنى نفسه يدفعني إلى ذلك، وهي راضية كل الرضى، في البدء كانت متخوَفة، السنباطي سوف يلحن لها، الرجل الذي لحن لأم كلثوم.
يقال في مصر: إن فيروز مطربة طبقة معينة من المثقفين، وهم يتداولون تسجيلاتها ويستمتعون بها، وإن جمهورها على الصعيد الشعبي محدود.
وأجاب السنباطي: لا والله، أبداَ، رجل الشارع والموظف والمثقف، وغير المثقف، يحبونها في مصر جداَ، لكنها مقلة، لها لحنان أو ثلاث في السنة، الجمهور يريد المزيد باستمرار، خصوصاَ أنها تغني الأغاني القصيرة، الفرق بينها وبين أم كلثوم، أن أم كلثوم تغني لك وصلة، ساعة، ساعتين، ساعة ونصف الساعة، فالجمهور تعود بإشباع غليله ويشبع، الضد مع فيروز، يلاقون جمالاَ، روعة، لكنه شيء خاطف لا يملأ روحهم.
والسنباطي مقتنع بصوت فيروز لتؤدي أغنية من نصف ساعة؟
لو لم أكن مقتنعاَ كلَ الاقتناع لما كنت وضعت لحن “بيني وبينك” بهذا الشكل، أعتقد أن فيروز قادرة، وعندما ستستمع، إليها، ستدهش، ستلقى لوناَ غريباَ، وأنا سعيد جداَ، إنها تغني بالطريقة التي أنا أريدها، عندما ستستمع إليها سترى أنها مختلفة اختلافاَ كلياَ، ربما، وفقها الله، في أنها تنطق الشعر بشكل سليم، وأنا لدي قدرة توجيه المطربة، تغيرت ملامحها تماماَ، وأنا سعيد، وهي فرحانة من هذا التغير جداَ، وفي الأيام الخمسة التي أمضيتها في بيروت كنا نجلس يومياَ معاَ جلستين، من الساعة العاشرة صباحاَ إلى الثانية، ومن السادسة مساء حتى التاسعة، إنا فعلاَ تهتمَ بعملها.
غادر السنباطي بيروت بعد أن اتفق مع فيروز على تسجيل قصيدة “بيني وبينك” في نهاية شهر تموز 1980 على ابعد تقدير، واتفق معها أيضاَ على تعاون أوثق، تقوم بموجبه بتسجيل بعض ألحان سيد درويش المتميزة بإشرافه، وألحان أخرى له، من شعر جوزيف حرب، وعبد الوهاب محمد ومصطفى عبد الرحمن، كان يأمل في أن تقدم القصيدتين: “بيني وبينك” و”أمشي إليك” في حفلة “عليها القيمة” كما قال، لكنه ذهب ولم يعد، إذ بعد سنة وبعض السنة قضى نحبه دون أن يسمع فيروز وهي تشدو بألحانه، فهل هي خائفة من التجربة السنباطية أم أنها تعتزم الوفاء للرجل الكبير، فلا تقدم أغنياته إلا في حفل كبير.