قراءة اقتصادية في ظاهرة التسول
ظاهرة التسول قديمة ومستمرة وتتجدد وتختلف وقائعها وسوياتها من دولة لأخرى، ومن بيئة لأخرى، ومن زمان إلى مكان. ومن المعهود، بل ومن المفترض، وربما على الأغلب، أن التسول ناجم عن حاجات معيشية للمتسول لا تمكنه ظروفه الصحية والاقتصادية من تلبيتها، ما يدفعه باتجاه التسول، من خلال جلوسه أو وقوفه في مكان ما، أو جولته على المنازل والمحلات التجارية والخدمية والصناعية والإدارية في الأحياء والقرى، يطرق أبواب المنازل والمنشآت، أو ينادي بأصوات تستعطف سامعيه. ويلاحظ أن بعض المتسولين يعمدون لتغيير أماكن جلوسهم أو وقوفهم أو سيرهم أو ندائهم، أو الأحياء والقرى التي يجوبونها، بحيث تتكرر زيارتهم للمكان أكتر من مرة خلال العام الواحد، في ضوء ما يجد من إحسان له، مع ملاحظة أن بعض المتسولين يطلبون مالا أو مواد عينية، وبعضهم يطلب الاثنين معا. وفي الطريق قد يبيع بعضهم ما يتراكم معه من المواد العينية، والمتسول لا يتوقف عن التسول حال اكتفى، بل إن ما يحققه يدفعه لمتابعة التسول، علما أن بعض المحتاجين الذين لا يمكنهم التسول أو لا يرون ذلك لائقا بهم، يجدون من يقدر أوضاعهم ويغدق عليهم بالإحسان بين حين وآخر.
وإن تكن حالة الحاجة هي الغالبة في سبب التسول، إلا أن واقع الحال يظهر حالات أخرى من التسول، فهي بمثابة المهنة لدى البعض، إذ يحقق من خلالها دخلا يفوق العمل الذي يتاح له أو يخطر بباله، لا بل قد تبين أحيانا وجود منظمين لعدة متسولين، يوزعونهم بداية النهار ويجمعونهم نهايته ويتقاسمون معهم غلة اليوم، وهذه حالات قائمة في بعض المدن. والنوع الآخر من التسول، والذي يجب ألا يغيب عن البال، هو التسول الاستطلاعي لغاية ما بنفس المتسول، الذي يرتدي لباس الفقر أو يتظاهر بالمسكنة ويجول في الأحياء والقرى وعلى المنازل، ويستجدي من يعطيه، وبنفس الوقت يسجل ملاحظاته عن المناطق التي يمر فيها أو المنازل التي يزورها في ضوء الهدف الذي ينشده، أكان لغاية الإعداد للسرقة أو تجميع معلومات لغايات أخرى؛ مع الإشارة لوجود حالات افترائية يمارسها بعض المتسولين، ما يجعل من الضرورة الحذر من كثير من المتسولين والتأكد من هويتهم، والاستفسار منهم عن حالهم قبل إعطائهم، ومن الخطأ القول “أعطيه وذنبه على جنبه”. وقد حدثت معي شخصيا الحالات التالية:
– شاب متسول في الأربعينيات من عمره، وبكامل قواه، يدعي أن ابنه مريض يحتاج لعمل جراحي عالي الكلفة، ويجمع مالا لمعالجته، فسألته من أي قرية، فأجاب. سألته عن أفراد أعرفهم، فأجابني عنهم، فطلبت هويته فتأكد لي صدقه، فأعطيته ما سمحت به نفسي. وبعد أيام التقيت بأحد أفراد قريته ورويت لهم زيارته لي، فأفادني أن المذكور لاعب قمار محتال وسيئ السمعة.
– متسول في الخمسينيات من العمر تقريبا يظهر المسكنة والكلام الخفيف فطلبت هويته، فإذا هو من أحد أحياء مدينة، ولاحقا كان هذا الحي معقلا للإرهابيين لعدة سنوات.
– متسولة تبدو عليها الرتابة، فسألتها من أين أنت فأجابت من المكان الفلاني. وحيث أنني أعرف المكان، سألتها عن أفراد فلم تتعرف عليهم، وادعت أنها تقيم حديثا فيه، فطلبت هويتها، فقالت لا أحمل هوية وانسحبت.
– متسول بكامل قواه ويقول أنا لست فقيرا، ولكن ابني مرض مرضا مخيفا، فنذرت أن أتصدق بمبلغ كبير حال شفائه، وعلى أن أجمع هذا المبلغ تسولا من الناس، وقد شفي ابني.
– متسولة في قرية أعادت تسولها في اليوم الثاني، فقالت لها ربة منزل: لقد أعطيتك أمس فلماذا تعودين اليوم؟ فأجابت: والله صحيح، ولكني وجدت أهل هذه القرية كرام فرغبت زيارتهم مرة ثانية.
– متسول يدعي أنه يتسول لكي يتصدق بما يتسول به على الفقراء.
– رأيت متسولا يضع حصيلة تسوله في حسابه في المصرف.
وحقيقة الأمر، ما كل متسول محتاج، ونسبة غير قليلة متكاسلون عن العمل ولا يستثمرون ما يملكونه أو يتاح لهم من إمكانات مادية وجسدية، وما كل ذي عاهة بحاجة للتسول، وقد رأيت مشلول الساقين يعمل في تكسير الحجر يدويا، ولم يلجأ إلى التسول، وأعرف حدادا مشلول الساقين يملك محلا لتصنيع المنجور من الحديد الصناعي ويعمل بيديه، ويرفض التسول. وقبل سنوات كان أحد عمال المقاسم الهاتفية أعمى، وكثير مثل ذلك. ولا جدال أن حاجة التسول قائمة لدى البعض، ولكنها محزنة أو مخجلة أو مستغربة في كثير من مظاهرها، ما يوجب العمل الرسمي والشعبي على الحد منها بطرق شتى، ولتتضافر الشؤون الاجتماعية والعمل والجمعيات الخيرية والأسر الميسورة التي توزع السلال والمال، لمنع التسول الجوال، وإرشاد المتسولين وتمكينهم من تحقيق دخل ذاتي من خلال استثمار ما لديهم من طاقات بشرية ومادية، أو دعمهم بهذه الإمكانات، ومنحهم بشكل دوري الحد الأدنى من الكفاف الذي يغنيهم عن التسول، وذلك بالتعاون مع وحدات الإدارة المحلية والمجتمع الأهلي. ولا صعوبة في ذلك متى توفرت الإرادة والإدارة.
عبد اللطيف عباس شعبان – عضو جمعية العلوم الاقتصادية السورية