بوح الدّماء لجراح الشّهداء
القنيطرة – محمد غالب حسين
في عيد الشهداء، أتعمّد باللهب، وأتطهّر بالنار، وأتنفّس التّراب المُذهّب الموشّى بأزاهير السّحب، وانحني أمام شقائق النعمان، وأتزيّن بباقة من ورق الغار، وأغصان السنديان، وأكتب بدم القلب، محاولاً البحث عن كلمات متوهجة موحية قدسيّة، تستطيع أن تقارب بوح الدّماء لجراح الشّهداء، متوسّلاً أن تتوهج الملفوظات بروعة العظماء، وتصف منارات العزة التي صاغتها الدماء الزكية الطهور، معانقة ثرى الوطن نجيعاً من فداء وتضحيات وأرواح ومُهج وبطولات، لكنني أكتشف أن الحروف جميعها تبدو حيية خجولة جزعة مرتبكة حائرة مقصّرة عند الحديث عن الشهيد الذي استحال غيمة تظلّل سماء الوطن، وتفجّر ينبوعاً عذباً سلسبيلاً، يسقي روابي البلاد وسهولها وبرها وبحرها، والتمع قوس قزح بهيج، وأيقونة الوطن، والغد الأريج، هالاتها من نور وعطر، وفوح وفرح.
إنه الوطن، وما أدراك ما الوطن؟ أنفاس الصباح وعبق الآقاح، الأمّ الثانية للإنسان، والرحم الطاهرة لتجذّر الرّيحان، واستطالات الزعفران، ونمنمات السّفوح، وتورّد التيجان.
الوطن بسمة مشرقة أبداً على ثغر الزّمان، به نباهي الشّمس، ونفاخِر القمر، حبّه أزلي، عشقه أبدي، فداؤه سرمدي، موشوم بالنّبض، مخضّب بالعبق، مُعشّق بهمس الصّدور ، لأنه الأغلى الأجمل، والأنقى المُبجّل، والأبهى المُحجّل، والأعزّ المُفضّل، والأحلى والأندى، والأغرّ الأخضر، والأرحّب من الدنيا كلها.
وطني هو الحقّ والصّدق، الوفاء والعشق، الجمال والألق، العابق بالورد، النادي بالمجد، سيبقى أبداً منارة للغد، والفخر والافتخار، وباقات الجلّنار، ولا ضفاف لحبه، ولا سواحل لمحبته، فالشوق له لا يفترّ، وأشواقه لا تنتهي، سيبقى في المقلة والهدب، ترعاه، تحرسه، تحفّ به عيون من دُرّ وأهداب من نور، من أجله الأرواح تفتدى، والمهج تبذل، والمآذن تصدح، والأجراس تقرع، والتراتيل نشيد، والعيد سعيد، والتّرانيم نسيم، للوطن العظيم.
جراحك أيها الشهيد قدسيّة، يشرق منها الانتصار، والسيوف مشرعة، لكنها خضراء، تحمي ضفائر الصبايا، وتلوّن ضحكات الأطفال، لترتفع قامات الرجال، وتتسع أحداق النساء، وتغني النوارس، ليشدو اليمام، ويضحك الأقحوان، وتبتسم العصافير والغدران، ويُلوّن اللمى شفاه البنفسج الحزين، ويمتدّ الأفق رحباً، وتعلو بيارق الحب، ونغني أهزوجة النصر، ويعزف الفرح ترنيمة الانتصار، وتلثغ طفلة بفرح العيد، ويصبح ألق وجهها قمة وملعباً للنسور، وترفرف سامقة بيارق الافتخار، والفخر بوطني على مر العصور، لتبوح الدماء لجراح الشهداء، أن الحديد يُحمى، ليصبح فولاذاً، وباللهب تزداد مضاء وتوهجاً سبيكة الذهب، والفراق لا يُرهِق العاشقين، بل يجعل الحبّ أشواقاً لا تنتهي، للتراب والخضرة، والوطن والمسرّة، والجولان والمفخرة.
الوطن هو العيد والفرح والغناء والنشيد، محبته هوى القلب، بوح الروح، توق القصب، فوح الفوح، تغريد البلابل، رقص السنابل، غناء العنادل، زهو الآيائل، ذكريات وحياة، مناجاة وأمنيات، صباحات منداة، مساءات مشتهاة، عشيات مقمرة، أيام مزهرة، ألوان وأقحوان، شدو وأغصان، ياسمين وبيلسان، إنه الأقرب للقلب، والأعز على النفس، هو عين العين، ونبض النبض، وروح الروح، وقلب القلب.
أيّها الشهيد، أنا لا أرثيك، ولا أبكيك فأنت أعظم من الرثاء، وأجلّ من البكاء، لأنّك المعاني النفيسة جميعها، وأسماء الشجاعة كلها، وأنت التضحية وأرومتها وجذورها وأغصانها وأوراقها وظلالها وألوانها ونسغها وتجلياتها وفخرها ونبلها وسموها وخلودها.