تحقيقاتسلايد الجريدةصحيفة البعث

عيد الشهداء في السويداء.. طقوس تغرس القيم الوطنية وتعزز مفهوم الشهادة

من أجمل الأغاني التراثية في جبل العرب تلك التي يردّد فيها أبناء الجبل “بالروح نفدي وطنا.. لو صاح صوت المنادي بالروح نفدي وطنا… يا مرحبا بالشهادي بشرعنا الموت سنة”، هي واحدة من الأغاني التي يتمّ ترديدها بالأعراس والمناسبات الاجتماعية، وتعبّر عن شجاعة أهل الجبل وحب الوطن وتقديس قيمة الشهادة، وهذه ليس مجرد كلمات تقال بل تعكس أفعالاً ومواقف عبر مرّ العصور.

خنساوات الجبل

أم وجدي، إحدى خنساوات الجبل، استشهد اثنان من أبنائها في معارك الوطن ضد الإرهاب، من يزورها يظن في البداية أنه سيكون أمام امرأة منهارة متعبة أكلها الحزن وأهلكتها غصة فقد فلذات كبدها، ولكن ما أن تصافح يدها حتى تشعر أنك أمام قامة سنديان شامخة، كيف لا وهي خنساء الجبل صفاء جمول، أم الشهداء، تقول: الشهادة مصدر فخر واعتزاز، فكيف وأنا أم الشهداء، صحيح الابن غال ويعادل الروح، لكن الوطن أغلى من الروح، فمن ليس لديه وطن ليس لديه عرض وشرف وبيت. مضيفة: بشهادتهم زففتهم عرساناً للوطن وترابه لكل العمر لا لساعة، كنت قد انتظرتهم ليأتوا وأفرح بهم، لكنهم أتوني شهداء ودمهم ممزوج بتراب الوطن الغالي، فاستقبلتهم بفرحة وغصة وألم كبير، وأقيمت لهم أعراس وطنية، وجلّ ما أتمناه وأدعو له ألا تذهب دماؤهم هدراً، وأن تنتصر سورية وتعود كما كانت.

هي واحدة من آلاف الأمهات اللواتي قدمن أولادهن فداء الوطن، فإذا كانت هي خنساء القرن الحادي والعشرين فقد سبقها على اللقب ندى عامر، أم الشهداء: فاروق وهشام وهاشم الداهوك، وقبلهم خنساء القرن العشرين مدلله حمزة التي قدمت أبناءها الأربعة وزوجها شهداء ضد الاحتلال الفرنسي، وفي كل مرة ترسم الخنساوات أجمل صور للوطنية وحب الأرض عند تشييع أبنائهن الشهداء بشكل جعل الباحثة الفرنسية بريجيت عزام تصف عرس الشهيد في السويداء بقولها: إن من أعظم المشاهد التي لفتت انتباهي تشييع الشهداء في السويداء، حيث شاركت في أكثر من موقف، ولاحظت كيف تحوّل يوم العزاء إلى يوم عرس، فالرجال يغنّون ويهتفون هتافات وطنية، والنساء تزغرد، وقالت: إن أكثر صورة أثرت فيّ ولن أنساها أبداً دموع امرأة تزغرد فوق نعش ابنها.

ذاكرة حية

ويشكّل عيد الشهداء في السويداء محطة مهمّة تحمل الكثير من المعاني والدلالات، تصبّ جميعها في إطار ترسيخ هذه القيمة والحفاظ عليها متجذرة في المجتمع ونفوس أبنائه، فيوم السادس من أيار ليس يوماً عادياً، بل له الكثير من الطقوس التي تخلد بتفاصيلها ذكرى الشهداء وتجعلهم حاضرين دوماً في نفوس المواطنين وفي ذاكرة المجتمع، ولاشك أن من أهم تلك الطقوس هي صناعة أكاليل الورود التي تحرص معظم أسر الشهداء على حياكتها من حدائق الورد والياسمين المحيطة بأضرحة الشهداء، ويتحول صباح السادس من أيار إلي صباح استثنائي تحرص فيه الأسر على ترتيب أكاليل الورد بإتقان.

وتحرص أسر الشهداء في كل قرية على الاحتفال بالعيد، يتبادلون التهاني وباقات الورود، وقد جمعهم هذا اليوم بطابعه الخاص وقداسته بالنسبة لهم. ولعيد الشهداء في محافظة السويداء طابع خاص، فأول ما يستقبلك بمدخل كل قرية مشهد شامخ على جانب الطريق يحرس دماء طاهرة لأحد الشهداء لحظة وصولك، ويودعك على الجانب الآخر من الطريق ذاته مشهد لشهيد آخر ترك لأبناء الوطن أمانة صيانة العهد للدماء الزكية التي غسلت زماننا من قذارة الخونة والمتآمرين، وكل قرية وبلدة، وهي تستقبل عيد الشهداء، تتزين بأبهى حلة لها، حيث تتفتح الورود، وتبتسم الرياض، وتعلو الزغاريد، وتتراقص أغصان الغار والزيتون، فيتحول عيد الشهداء إلى عيد للوطن، ومن قصص البطولة والتضحية التي نسجها شباب الوطن التي يتناقلها أبناؤه نعلم أنه لا وجود لخوف في قلوب الأبطال لأنهم يؤمنون برسالتهم، وبشعبهم، وبحقهم بالعيش بكرامة، أو الموت دون ذلك، ولأنهم يعلمون أن طريق الخلاص والقضاء على المؤامرات التي تحاك للوطن لابد أن تعمّد بالدماء والبطولات، فعاهدوا الله والوطن أن يدافعوا عن وطنهم وكرامتهم وعزتهم وسيادتهم، وألا يبخلوا بدمائهم وأرواحهم حتى يتحقق النصر، فكانت الشهادة هدفهم الأسمى، لأنها الطريق الوحيد للوصول للنصر وقهر الأعداء، فكانوا أكرم من في الدنيا وأنبل بني البشر، ونسخوا أسماءهم في سجل الخالدين، وتتغنى ببطولاتهم الأجيال القادمة، فكان عيد الشهداء كأعراس التأبين أعياداً وطنية بامتياز.

مصدر الأمل

ولاشك أن من يحتاج لأي جرعة تفاؤل أو أمل أو يعاني من نقص في الارتباط في الأرض فليزر أسر الشهداء، هناك فقط تجد معاني الوطنية مغروسة ومرسومة في كل مكان ومع كل نبضة قلب، ليحمل اللقاء معهم عناوين كثيرة في الوطنية والفداء والتضحية، فقد رسمت عوائل الشهداء أجمل صور التضحية والبطولة والشجاعة عندما وقفت الأم تزغرد فوق نعش ابنها الشهيد، وتزفه عريساً للوطن.

يقول وائل العبد الله والد الشهيد هيثم: لكي يبقى الوطن شامخاً موفور الكرامة والسيادة يحتاج إلى تضحيات أبنائه، وابني واحد من أبناء الوطن، قدّم دمه وروحه من أجل صون كرامته وعزته وسيادته، وقضى شهيداً من أجله، ومهما تحدثنا عن خصاله ومزاياه الحميدة فلن نستطيع أن نفيه حقه في الإجلال والتمجيد، فكان شاباً خلوقاً باراً بوالديه محباً لجميع الناس خدم وطنه بشرف وإخلاص، واستشهاده وسام شرف وفخار نعلّقه على صدورنا.‏

والدة الشهيد هيثم، فاديا العبد الله، أكدت أن الوطن غالٍ، والحفاظ على كرامته وسيادته واستقراره يحتاج إلى تضحيات أبنائه، وهيثم ضحى بدمه وروحه من أجل هدف سام ونبيل، إنه الحفاظ على سورية ووحدتها.

بدوره قال والد الشهيد وسام الديك الذي استُشهد دفاعاً عن أمن الوطن واستقراره: هنئوني بعرس البطل ولا تعزوني، هكذا أراد الشهيد وهكذا سنفعل، وأضاف: الشهيد اتصل بي قبل استشهاده بيومين وأبلغني أنه ذاهب ليقدم روحه ودمه في سبيل أمن واستقرار الوطن، مجسّداً معنى التضحية والفداء، وقيم الشهادة ومعانيها التي تربى عليها، وليس عجباً أن تقدم أسرة واحدة أكثر من شهيد، وليس مستغرباً أن تبقى أمهم صلبة متماسكة، معلنة استعدادها لتقديم المزيد من أبنائها فداء للوطن.

مدرسة الشهادة

ثقافة الشهادة ثقافة وطنية بامتياز، يتناقلها أبناء الوطن، ويعلّمها الآباء للأبناء عبر مدرسة استشهادية عريقة أرسى دعائمها القائد المؤسّس حافظ الأسد بأقواله وأفعاله، حيث اهتمّ بالشهادة والشهداء وكرّمهم، وقد عرف بتقديسه للشهادة، وباحتضانه لأسرهم، ورعايته الكريمة لها.

يقول الرفيق أنور الحسنية عضو قيادة فرع الحزب: إن عطاءات القائد المؤسّس لأسر الشهداء لا تُعدّ ولا تُحصى، فقد كان إحداث مكتب شؤون الشهداء بعد الحركة التصحيحية المباركة عطاء كبيراً لرعاية شؤون أسر الشهداء من مختلف الجوانب المالية والاجتماعية والصحية والوظيفية، كما أصدر السيد الرئيس بشار الأسد الكثير من المراسيم والقوانين التي تمّ من خلالها تكريم الشهداء وأسرهم، ويتمّ تخليد ذكر الشهداء بتسمية المدارس والمرافق العامة بأسمائهم، إضافة إلى الزيارات التي تقوم بها القيادات السياسية والحزبية والشعبية والأهلية لأسر الشهداء بشكل دوري، وتقديم الهدايا الرمزية لهم، والاطمئنان على أوضاعهم المعيشية، وتقديم الخدمات اللازمة، كل ذلك جعل الجندي السوري لا يلتفت إلى الوراء، فنجد مقاتلينا يتسابقون في المعارك دفاعاً عن الوطن والكرامة لنيل الشهادة والدخول في سجل الخالدين.

القوافل مستمرة

وقدّمت السويداء العديد من قوافل الشهداء منذ أن وطئت أقدام المحتلين أرض الوطن، بدأت قرابين الشهداء تتوالى وقوافل الشهداء تسير القافلة تلو الأخرى كواكب مضيئة، لبوا دعوة الوطن عندما دعاهم، اختصروا قيم الحياة بكلمة واحدة وفعل واحد وهو الشهادة، وقدموا أغلى ما يملكون ليبقى الوطن حراً كريماً شامخاً. في أيام الاحتلال العثماني، أصدرت المحكمة العرفية بدمشق حكمها بالإعدام شنقاً على عدد من أعيان الجبل، وهم ذوقان الأطرش- يحيى عامر- مزيد عامر- هزاع عز الدين- محمد القلعاني- حمد المغوش، ونفذ الحكم على دفعتين في شهر آذار عام 1911 في ساحة المرجة بدمشق لتبدأ القافلة الأولى من الشهداء على مذبح الحرية. ‏وكانت قافلة الشهداء الثانية والثالثة في عامي 1915- 1916 على يد جمال باشا السفاح حيث أعدم 11 شهيداً عام 1915 و22 شهيداً في السادس من أيار في كلّ من ساحة المرجة بدمشق وساحة الحرية في بيروت، ووصل عدد شهداء جبل العرب خلال معاركه ضد الاحتلال العثماني إلى أكثر من 1350 شهيداً، ومعارك الثورة السورية الكبرى إلى أكثر من 4000 شهيد، وهذا الرقم يعادل ثلث عدد سكانها آنذاك وقدّمت نحو ألفي شهيد خلال الحرب على سورية أولهم الشهيد إياد زين الدين الذي استشهد في درعا في نيسان ٢٠١٢ وليس آخرهم الشهيد سامح المحيثاوي الذي استشهد في مطلع العام الحالي في البادية السورية.

 رفعت الديك