ثقافةصحيفة البعث

حلب لوحة تركيبية من مشاهد مفاهيمية

غالية خوجة

تجذبك حلب لأسباب معلومة ولا معلومة، وإذا ما انتبهتَ أكثر، ستكتشف أن اللمسة الفنية العفوية والمتناغمة أحد أهم الأسباب التي تريدك أن تدخل قلبها، لتسمع حكاياتها، فتلتفت حولك وكأن أحداً لا مرئياً يتحدث إليك!.

تتأمل وتنصت إلى فنون العمارة، والحجارة، هنا، ليست فقط حجارة، بل سيرة وذاكرة وتأريخ وأزمنة، وحين تنصتُ إلى الغيم وهو يرسم تشكّلاته في السماء، تراه ينظر إلى سقف من سعف النخيل في الحديقة العامة، فيبدو السقف مع إضاءة الشمس نهاراً، وإضاءة المصابيح ليلاً، وكأنه لوحة مفاهيمية، تضاهيها فنياً حفرة في جذع شجرة في الحديقة، صنعتها الطيور لتكون بيتها الآمن بين الشجر والسماء وضفاف نهر قويق المتشكّل مثل طريق تتماوج بين فراغاته أرواح المتأملين المهتزّة مع أوراق الشجر وتويجات الزهر، لتحكي بشفافية عمّا تراهُ في تلك الزرقة العميقة وهي تعزف كلماتها مع الحفيف، بينما صوت مياه النوافير يرشقك برذاذه في يوم بدأت فيه الحرارة تتمدّد، لتمنحك الصورة طمأنينة بعيدة عن ضجيج أفق الحياة حواليك.

تستدرجك الطرقات والشوارع، كما يستدرجك شرودك مع كل مشهد، فتعبر ساحة سعد الله الجابري إلى ساحة جمال عبد الناصر، وتلفتك الطاقة الشمسية المرافقة لعربات الباعة الجوالين، وكيف وظفوها لإعداد مآكلهم ومشاربهم والاستماع إلى الموسيقا أيضاً.

وينتشلك ضجيج الناس والباعة في سوق باب الجنان، ويضعك أمام مؤشر حيويّ على الحركة والازدحام، فترى البضائع المختلفة من أزياء وأطعمة وخضار وفواكه ومنظفات، وترى الأطفال يتصرفون كالتّجار، وبعضهم يتقن مهنة التسول والاستعطاف، لكنك تمرّ مسرعاً، تاركاً عيناً على متحف حلب، وعيناً على أحوال الناس.

وما إن تتجاوز هذا السوق، وتسير بين الأزقة القديمة وهي تتسلسل عبْر القناطر والمزاريب المعشبة لخان الوزير، تشعر أنك تعبر الأزمنة، وتستوقفك اللحظات كمحطات بين ذاكرتك والمكان، تشمّ رائحة التأريخ كما كنت تشمّ رائحة كتبك المدرسية، فتجد كيف تعود روائح الفصول مع خطواتك في المدرسة والبيت، وكيف كنت تمضي أوقاتك مع أصدقاء الطفولة والدراسة وأفراد العائلة بين هذه الأزقة والأسواق.

ثم تستدرجك الأسواق وهي تستعيد هيئاتها الماضية، وتصل بك إلى سوق السقطية ومعروضاتها من الضيافة، وكيف أمضيت أول عيد وأنت تزور الجميع لتحصل على المزيد من الحلوى.

وتمضي كما يمضي المنوّم مغناطيسياً مع هذه الجماليات إلى أن تصل إلى القلعة، فتسمع صهيل الأحصنة القادم من أزمنة بعيدة، وتقترب قليلاً أمام باب القلعة الرئيسي، لتأخذك الألعاب المعروضة مع سلال القش إلى المزيد من الإرث المادي واللا مادي، وكيف ما زالت حرفة السلال القشية حاضرة، بينما زقزقة العصافير تزدحم في هذا الفضاء المنقوش بلوحات مفاهيمية تتركب منها مدينة حلب التي لم تتخلّ عن فنها في ترتيب المكان والبضائع، واستعادة “سبيل الماء” و”المناهل” لتسقي العابرين!.