الحب.. صورة أم حقيقة؟
غالية خوجة
ماذا بين المحبة والحب؟..
بين نبضة وأخرى تلمع المحبة الخالصة، وتشفّ مثل عطور المطر، لا تجهلها النباتات فتنمو مع الموسيقا وقطرة الماء التي تسقيها بحنان، وتعرفها الحيوانات وهي تقترب من بعض الأشخاص لأن هالتهم تعرف المحبة النقية، ويدركها الإنسان مع الناس كافة، بدءاً من والديه وإخوته وأبنائه وأقاربه وأصدقائه ومعارفه وزملائه، ويرثها أحدنا من أبويه وأرضه وسمائه، فتبدو لازورديةً جانحة إلى اللحظة البيضاء، وتزداد لمعاناً مع العطاء دون انتظار لأيّ أخذ، أوليست المحبة خالصة العطاء والوفاء دون مصلحة خاصة؟.
وهذه المحبة أشمل من الحب المتدرّج بألوان قوس قزح، لأنها تلده ليكبر في القلوب ومعها، كما يكبر الهلال ليصير بدراً، وكما تعلو الموجة كلما حملها النبض العميق للبحر أو المحيط، فلا ترسو على الشاطئ، بل تفضّل الحركة بين المدّ والجزْر لتعزف ضغطها المرتفع والمنحفض أنشودةً كونية يألفها المحبون المتجولون بين المولوية وهالاتها الفلسفية المتصوفة، وربما، هذا ما جعل أبا يزيد البسطامي يسأل طارقَ بابه: ماذا تريد؟ ليجيبه أريد أن أرى أبا يزيد البسطامي، لأنني أبحث عنه منذ عشرين سنة، وأنا سعيد لأني عرفت بيته الآن! فأجابه البسطامي من وراء الباب: وأنا أبحث عنه منذ أكثر من عشرين سنة!.
وإذا ما عدنا من هذا التحليق إلى الواقع، نتساءل: كيف يرى كلّ منا المحب؟ هل نراه كما هو في حقيقته الحاضرة أمامنا؟ أم أننا نرى الصورة المرسومة في مخيلتنا وأوهامنا ونسقطها عليه مقتنعين أنها هو؟.
يلعب هذا الخداع النفسي بنا، فنتوّهم أن من نحب هو المثال المثالي بكل ثقة ويقين، غير مكترثين بأن ما نراه أمامنا هو الصورة التي بداخلنا وليس هو، ولذلك، من ضرورات الحكمة القلبية والعقلية والحياتية أن ننتبه إلى هذا الفارق الذي لا يكاد يبين إلاّ بعد تجربة قد تمتد سنوات، لنكتشف أن العلاقة بين الإنسان ومن يحب مصابة بالكثير من النتوءات والوعورات والعواصف والزلازل التي مهّدتْ لضياع مفهوم الحب وصورته وحقيقته بعدما ظهرت بألوانها المتنافرة حدّ التناقض وتجسّدت بالعديد من الصفات والأفعال الرمادية والسوداء والحارقة مثل الكراهية، أو الحقد، أو الخبث، أو الخيانة، أو الانتقام!.
والحب النقي، بطبيعته لا يقبل الانفصام والتلاوين السوداء، لذلك لا يخدع نفسه، ولا يخدع المحب مهما طال الزمان، ويعبّر عن نفسه الصافية وحضوره المشعّ بالكشف عن النبضات المزيفة، ليعود مع القلب الصافي إلى إيقاعاته المعشبة بالنقاء وعطور المطر.
ولكي لا يصاب الإنسان بمتلازمة القلب المكسور عليه أن يثق بفراغ ما بينه والآخر، متوقعاً أن تظهر فجوات وعيوب وتفاصيل قد لا يرغب بها، لأننا من البشر، وللإنسان أن يقرّر هل يواصل، أم أنه بحاجة لفاصل ثم يواصل، أم أنه يقرّر انتقاد أبعاده النفسية ليستعيد ترتيبها متأملاً العالم بمحبة وحب؟
وبالمقابل، ليس الحب، فقط، عالماً رومانسياً مختزلاً بجلسة ووردة وفنجان قهوة، بل هو بناء للذات والآخر، والعمل من أجل هذا البناء يحتاج إلى المحبة والحب معاً لتكتمل نبضات الحياة، فلا تركد في القاع كي لا تنمو فيها الطحالب، ولا تتحرك بعنف كي لا تقتلع الورود، بل تتجدّد مع كل لحظة طالما أن الهدف هو الحياة، وحياة “لا حب فيها، جدول لا ماء فيه” كما يطربنا صباح فخري، لذا، لا يُختصر الحب بإنسان، بل يشمل نبضات المجرات والفضاء والتراب والماء، ومن المحبة أن نمنح حياتنا حباً يدوم من خلال آثارنا التي تنفع الناس.
gbaathmag@gmail.com