عالم متعدّد الأقطاب أو حرب نووية
قد يبدو هذا العنوان للوهلة الأولى غير قابل للتصوّر أو التحقيق، ولكن الأحداث الأخيرة على الساحة الدولية يمكن بالفعل أن تشير إلى هذه النهاية بشكل أو بآخر.
فهناك سعي غربي محموم منذ نهاية الحرب العالمية الثانية إلى إقصاء مجموعة من القوى الدولية التي ظهرت كقوى عظمى في أعقاب انتصارها على ألمانيا في الحرب العالمية الثانية بقيادة الزعيم النازي أدولف هتلر، وهذا السعي تجسّد بشكل واضح في الحرب الباردة التي خاضها الغرب ضدّ الاتحاد السوفييتي السابق وانتصر فيها، الأمر الذي أدّى إلى تفتت هذا الاتحاد إلى مجموعة من الدول التي زحف إليها الغرب عبر ذراعه العسكرية حلف شمال الأطلسي، وتمكّن من تدجينها واحدة تلو الأخرى بعد تمكّنه من تدمير الاتحاد اليوغوسلافي وتقسيمه.
هذا التمدّد الغريب لحلف الناتو على حساب دول المعسكر الشرقي “الاشتراكي”، جلب أيضاً مجموعة من المشكلات لبنية الحلف ذاته، حيث إن هذه الدول إلى الآن لم تتمكّن من الانسجام مع الواقع الجديد الذي فرض عليها الانتقال من النظام الاشتراكي إلى النظام الغربي الرأسمالي بشكل مباشر دون تحقيق الأرضية المناسبة لهذا الانتقال، فضلاً عن أن الدول الغربية ظلّت تنظر إلى الدول الجديدة “الشرقية” على أنها دول من العالم الثالث، وغيرها من الأسباب التي جعلت هذا الحلف مجرّد أداة عسكرية واقتصادية لتحقيق أهداف مجموعة ضيّقة من الدول الغربية وعلى رأسها الولايات المتحدة الأمريكية.
هذا الأداء أنتج صراعاتٍ عرقيةً وطبقية وحتى أيديولوجية داخل دول الحلف، تحوّلت بالنتيجة إلى بؤر استنزاف له، وخاصة أنها تقع على تماسٍ مباشر مع الدولة القوية العائدة مجدّداً إلى الساحة الدولية روسيا الاتحادية، ومع السعي المحموم لحلف شمال الأطلسي إلى التمدّد شرقاً باتجاه الحدود الروسية دون أخذ المخاوف الروسية بعين الاعتبار، نشأ واقع من عدم الثقة بين الطرفين أدّى الآن إلى الاصطدام المباشر بين “الحلف” وروسيا حتى لو لم يتمّ الإعلان عن ذلك صراحة، لأن الدعم الغربي المباشر لأوكرانيا في الحرب على روسيا بالمال والسلاح وهي دولة من خارج الحلف، وكانت تتمتّع بوضع محايد بين الطرفين شأنها في ذلك شأن دول البلطيق، لابدّ له في المحصّلة أن يعمّق هذا الاشتباك أو يطوّره إلى مرحلة أخرى حسب الظروف، فضلاً عن العقوبات الغربية غير المسبوقة التي فرضها الغرب على روسيا منذ بداية العملية العسكرية الخاصة للجيش الروسي في أوكرانيا، ودعمه للنازيين الجدد الذين عمل على تسليمهم مقاليد السلطة في أوكرانيا طوال الفترة الماضية.
وبما أن الوضع في الحرب الآن يشير صراحة إلى أن الغرب مصمّم على عدم أخذ المخاوف الروسية بعين الاعتبار في مسألة مهمّة وهي عدم تمدّده نحو حدودها الغربية، بل زاد على ذلك بالعمل على استقدام لاعبين جدد إلى الحلف “السويد وفنلندا”، فضلاً عن إعلانه الأخير من قاعدة رامشتاين الألمانية التي تتركز فيها القوة الضاربة للحلف أنه مستمرّ في إمداد أوكرانيا بالسلاح المتطوّر إمعاناً في استنزاف روسيا وإضعافها عبر إطالة أمد الحرب، فإن هذا الأمر سيقود بالمحصّلة إلى استنتاج واحد لدى الروس لا ثاني له، وهو أن الحلف يضع كل إمكاناته في استخدام أوكرانيا رأس حربة لاستهداف روسيا وإضعافها، وهذا معناه أن الغرب مصرّ على الإبقاء على هيمنته المطلقة على العالم وعدم السماح بظهور قوى عالمية أخرى تكون نواة لنشوء نظام عالمي جديد متعدّد الأقطاب.
هذه الهستيريا الغربية فسّرتها موسكو على أنها تحمل إصراراً غربياً على تدمير روسيا وليس فقط إضعافها، وبالتالي قرأت المعركة مع نظام كييف على أنها معركة بالوكالة يقودها الحلف الأطلسي ضدّ روسيا بمعنى أن المعركة باتت معركة وجود، لذلك ليس غريباً أن يحذّر السيناتور الروسي أليكسي بوشكوف وهو صحفي وسياسي ورجل دولة وعضو في حزب روسيا الموحّدة الحاكم، من أن عدم قدرة الغرب على القبول بعالم متعدّد الأقطاب، قد يؤدّي إلى وقوع كارثة نووية، وهو ربّما كان ردّاً غير مباشر على ثعلب السياسة الأمريكية هنري كيسنجر في حديثه يوم الإثنين الماضي عن أن الظروف قد تجبر القيادة الأمريكية على اتخاذ إجراءات تهدف إلى تغيير الأنظمة في الدول الاستبدادية العدوانية، في إشارة إلى روسيا، لكن على واشنطن تجنّب التفاقمات التي قد تؤدّي إلى ذلك.
طلال ياسر الزعبي