بين الليبرالية والواقعية … أوكرانيا صراع أجندات أم ضحية نظريات العلاقات الدولية؟
البعث الاسبوعية-هيفاء علي
يقول ألكسندر دوغين، المحلل السياسي والإستراتيجي، والفيلسوف الروسي: “إن العالم بحاجة إلى فهم ما يحدث. وللقيام بذلك، لا يكفي الفطرة السليمة، بل يحتاج إلى منهجيات”.
في الواقع، هناك مدرستان فكريتان رئيسيتان في العلاقات الدولية: الواقعية والليبرالية.
- تقوم الواقعية في العلاقات الدولية على الاعتراف بالسيادة المطلقة للدولة القومية، وهذا يتوافق مع نظام “ويستفاليا” للعلاقات الدولية الذي ظهر في أوروبا بعد حرب استمرت 30 عاماً وانتهت عام 1648. ومنذ ذلك الحين، ظل مبدأ السيادة أساسياً في نظام القانون الدولي. والواقعيون في العلاقات الدولية هم أولئك الذين يستخلصون أكثر الاستنتاجات جذرية من مبدأ السيادة، ويعتقدون أن الدول القومية ذات السيادة ستظل موجودة دائماً. وهذا ما يبرره فهم الواقعيين للطبيعة البشرية، فهم مقتنعون بأن الإنسان، في حالته الطبيعية، معرض للفوضى والعنف ضد الأضعف، وبالتالي فإن الدولة ضرورية لمنع حدوث ذلك. علاوة على ذلك، لا ينبغي أن تكون هناك سلطة فوق سلطة الدولة للحد من السيادة. وبالتالي، فإن مشهد السياسة الدولية يتكون من توازن قوى دائم التغير بين الدول ذات السيادة. وبهذا المعنى، يهاجم القوي الضعيف، لكن يمكن للضعيف أن يلجأ دائماً إلى القوي طلباً للمساعدة، ومن هنا برز تشكيل الائتلافات والمواثيق والتحالفات. كل دولة ذات سيادة تدافع عن مصالحها الوطنية على أساس الحسابات العقلانية الباردة، علاوة على ذلك، مبدأ السيادة يجعل الحروب بين الدول ممكنة، ولكن في نفس الوقت يكون السلام ممكناً أيضاً، إذا كان مفيداً للدول، أو إذا لم تكن هناك نتيجة لا لبس فيها في الحرب.هكذا يرى الواقعيون العالم، وقد كانت هذه المدرسة في الغرب قوية جداً وحتى مهيمنة، ولا تزال مؤثرة جداً في الولايات المتحدة حتى يومنا هذا حيث يتبع حوالي نصف السياسيين الأمريكيين وخبراء العلاقات الدولية هذا النهج.
- أما فيما يخص المدرسة الليبرالية في العلاقات الدولية، فإن المفهوم هنا مختلف تماماً برأي المحلل الروسي، والذي يشرح ذلك من باب أنه يُنظر إلى التاريخ على أنه تقدم اجتماعي مستمر، والدولة ليست سوى مرحلة على طريق التقدم، ومن المتوقع أن تختفي عاجلاً أم آجلاً. وبما أن السيادة ملوثة بإمكانية الحرب، فيجب على المرء أن يحاول التغلب عليها وإنشاء هياكل فوق وطنية تقيدها أولاً ثم تلغيها تماماً. وبالنسبة لليبراليينفإن الطبيعة البشرية ليست ثابتة (كما هو الحال بالنسبة للواقعيين) ولكن يمكن ويجب تغييرها. ولهذا الغرض، يتم استخدام التعليم والتلقين ووسائل الإعلام والدعاية للقيم الليبرالية وغيرها من أشكال التحكم في العقل. يجب أن تصبح الإنسانية ككل ليبرالية، ويجب القضاء على كل ما هو غير ليبرالي ونفيه. لأن غير الليبراليين هم “أعداء المجتمع المفتوح”، وبعد تدمير “غير الليبراليين”، سيكون هناك سلام عالمي، ولن يكون أحد في حالة حرب مع أحد. في الوقت الراهن، الحرب ضرورية، ولكن فقط ضد “غير الليبراليين” الذين “يعرقلون التقدم”، ويتحدون سلطة النخب الليبرالية العالمية، وبالتالي فهم ليسوا “بشريين” بأي شكل من الأشكال، ويمكن وصفهم بمجرمي الإبادة الجماعية الكاملة لأنهم استخدموا الأوبئة الاصطناعية والأسلحة البيولوجية ضد البشرية.في المستقبل القريب، ووفقاً لهذا المفهوم، سيتم إلغاء الدول وسيختلط جميع البشر، مما يخلق مجتمعاً مدنياً كوكبياً في عالم واحد وهذا يسمى “العولمة”. والعولمة هي نظرية وممارسة الليبرالية في العلاقات الدولية، ويحتويالإصدار الجديد من الليبرالية على عنصر تكميلي اليوم، وهو الذكاء الاصطناعي الذي سيهيمن على البشرية، وسيصبح الناس أولاً بلا جنس، وسيعيشون في الفضاء الإلكتروني، وسيتم تخزين وعيهم وذاكرتهم على خوادم الكمبيوتر، وسيتم إنشاء أجيال جديدة في أنبوب اختبار أو مطبوعة بواسطة طابعة ثلاثية الأبعاد، وهذا ما يرمي إليهمشروع “إعادة الضبط الشاملة” التي أطلقها مؤسس منتدى دافوس، كلاوس شواب.
يضيف المحلل الروسي إن الليبراليون يشكلون النصف الآخر من السياسيين وخبراء العلاقات الدولية في الغرب، حيث يزداد تأثيرهم تدريجياً ويتجاوز أحياناً تأثير الواقعيين في شؤون العلاقات الدولية. فعلى سبيل المثال، إدارة بايدن الحالية وأغلبية الحزب الديمقراطي الأمريكي هم ليبراليون يدفعون في هذا الاتجاه. كما يهيمن الليبراليون في الاتحاد الأوروبي، وهو تنفيذ مثل هذا المشروع، لأنه يهدف إلى بناء هيكل فوق وطني. وجدير بالذكر أن الليبراليين هم من صمموا وأنشأوا عصبة الأمم، ثم الأمم المتحدة، ومحكمة لاهاي الدولية، والمحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان، وكذلك صندوق النقد الدولي، والبنك الدولي، ومنظمة الصحة العالمية، ونظام بولونيا التعليمي، والرقمنة وجميع مشاريع وشبكات العولمة. والليبراليون الروس جزء لا يتجزأ من هذه الطائفة العالمية، التي تحمل كل السمات المميزة للطائفة الشمولية، وهنا يمكن تسمية كل هذه التعريفات بالنظام العالمي الجديد.
بعد انهيار الاتحاد السوفييتي، أصبحت أوكرانيا أداة لليبراليين والواقعيين، وبالتحديد أداة من أدوات الغرب. شجع الليبراليون الاوربيون والأمريكيون اندماج أوكرانيا في النظام العالمي، ودعموا تطلعاتها للانضمام إلى الاتحاد الأوروبي وحلف شمال الأطلسي (الجناح العسكري للعولمة)، في حين استخدم الواقعيون في وزارة الدفاع الأوكرانية مصالحهم ضد روسيا. وللقيام بذلك، كان من الضروري جعل أوكرانيا دولة قومية، الأمر الذي يتعارض مع الأجندة الليبرالية البحتة. وهكذا تم تشكيل توليفة من الليبرالية الأوكرانية والنازية التي أطلقت روسيا عمليتها العسكرية الخاصة ضدها. اذ تشكل النازية في أوكرانيا اليمين المتطرف، وتتألف من كتيبة آزوف وغيرها من الهياكل المحظورة في روسيا، وكانت ضرورية لبناء أمة ودولة ذات سيادة في أسرع وقت ممكن. تطلب الاندماج في الاتحاد الأوروبي صورة مرحة ومسالمة بشكل هزلي (كان هذا اختيار زيلينسكي). كان القاسم المشترك هو النات، وكانت هذه هي الطريقة التي حقق بها الليبراليون والواقعيون في العلاقات الدولية إجماعاً معادياً للروس في أوكرانيا، وعند الضرورة، غض هذا الغرب الطرف عن النازية وعن القيم الليبرالية.
بالنسبة لروسيا، سيطرت الليبرالية بقوة على العلاقات الدولية منذ أوائل التسعينيات، وكانت روسيا آنذاك، مثل أوكرانيا اليوم، تحلم بالانضمام إلى أوروبا والانضمام إلى الناتو. وبحسب الكاتب، لو كان ذلك الأمر يتطلب مزيداً من التفكك، لكان الليبراليون في الكرملين مستعدين للقيام بذلك أيضاً، لكن في وقت ما قام يلتسين نفسه ووزير خارجيته يفغيني بريماكوف بتعديل جدول الأعمال. لاحقاً بدأت الواقعية تظهر في روسيا عندما وصل بوتين إلى السلطة، ورأى كيف أضعف أسلافه السيادة إلى أقصى الحدود، وألحقت بهم العولمة، وبالتالي كانت البلاد تحت السيطرة الأجنبية. بدأ بوتين العمل لاستعادة السيادة منطلقاً من الاتحاد الروسي نفسه، ثم بدأ في التعامل مع فضاء ما بعد الاتحاد السوفييتي.
في المقابل، ينتمي بايدن وإدارته مثل بلينكين، كما كلينتون وأوباما من قبله إلى المدرسة الليبرالية، وبالتالي، فإن روسيا هي العدو المطلق، لأنها تشكل عقبة خطيرة أمام العولمة، وأمام إنشاء حكومة وعالم أحادي القطب. أما بالنسبة للواقعيين الأمريكيين فإن روسيا هي منافس للسيطرة على الفضاء الكوكبي. وبالنسبة لهم، فإن دعم أوكرانيا ضد روسيا ليس مسألة حياة أو موت، لأنه لن تتأثر المصالح الأساسية للولايات المتحدة بهذا الصراع، بل من الممكن إيجاد أرضية مشتركة معهم، وليس مع الليبراليين. ومع ذلك، بالنسبة لليبراليين في العلاقات الدولية، فهذه مسألة مبدأ، وستحدد نتيجة العملية العسكرية الخاصة ما إذا كانت ستكون هناك حكومة عالمية أم لا. قد يعني انتصار روسيا إنشاء عالم متعدد الأقطاب بالكامل تتمتع فيه روسيا والصين والهند في المستقبل القريب بسيادة حقيقية وقوية، في حين أن مواقف الكيانات المتحالفة في الغرب الليبرالي، التي تقبل العولمة وهي على استعداد للتنازل عن سيادتها، سوف تضعف بشكل كبير.
ويختم المحلل الروسي بالإشارة إلى أن الليبرالية في العلاقات الدولية تهدف إلى فرض سياسة ” الجندر، النوع”، والمعلومات والحرب الهجينة والذكاء الاصطناعي وما بعد الإنسانية، لكن الواقعية تتطور أيضاً من جانبها، وهو تأكيد منطق” صاموئيل هنتيغتون” الذي تحدث عن “صراع الحضارات”، وأن الفاعلون الرئيسيون ليسوا الدول بل الحضارات.