“سمسق” فاتن ديركي.. الياسمين حين يصبح ورديّاً
“يا بعلبك على ديارك أنا جاية محفورة على دراجك ألف حكاية”، موسيقى وكلمات أغنية تسمعها جيهان فور وصولها إلى بعلبك، وتعود بذاكرتها إلى رحلتها الأولى وهي طفلة ابنة عشر سنوات مع أمّها وأبيها وأختها إلى بيت عمّتها في الهرمل.. تصل جيهان إلى بيت عمّتها بترحيبٍ جميلٍ منها، وتجهّم من زوجها “أبو لقمان”، بعد أن عرف سبب هذه الزّيارة.. في جلسة صفاء تطمئن العمّة ابنة أخيها بأنّ زوجها سيعطيها المال لكن عليها أن تكفّ عن التّصدّق للفقراء.. تتفاجأ جيهان وتسألها كيف عرفت ذلك، لتجيبها باختصار: لا تستهيني بعمّتك يا فتاة.. صحيح أنّي لا أعيش في سورية لكنّي أعرف الكثير من النّاس في الشّام.. هل نسيت أنّني ولدت وترعرعت وعشت فيها إلى أن تزوّجت في سنّ الخامسة والثّلاثين؟!
لكن رحلة عن رحلة تختلف، فـ “أبو لقمان” يسخر منها عندما وعدته بإعادة المبلغ المالي بعد فترةٍ وجيزة، معلّقاً على ذلك بالقول: .. وكيف ستسددينه إذا كان الرّاتب الذي تتقاضينه بالكاد يسدّ رمقك؟ ينهي عبارته وينظر إليها نظرات غير مريحة.. وفي يومها الثّالث وعلى سرير الغرفة التي تنام فيها، ترتّب جيهان ثيابها وتسرح بأفكار يباغتها أبو لقمان، مستغلاً غياب عمّتها وحاجتها للمال، فينقض عليها بوحشية وبرغبة قذرة وقبلات نتنة لا تستطيع مجابهتها بجسدها الصّغير.. لحظات وتستجمع قواها وتنقضّ بأسنانها فتعيد القبلة دماءً وصرخةً ألم فينهال عليها بالشّتائم. تركض وتخرج من المنزل وتراقبه من بعيد لحين عودة عمّتها، وفي صباح اليوم التّالي تحمل حقيبتها لتغادر فتسمعه يقول: هذه آخر مرّة أسمح لهذه الشّيطانة بدخول منزلي.. سمعتها في الحضيض وسيرتها على كلّ لسان.
بذكرى مؤلمة أخرى تعود جيهان إلى منزلها متعبةً تصرخ ألماً وتبقى أياماً ثلاثةً ممددةً على الفراش وتخرج أخيراً معتذرةً من أمّ ياسمين ـ صاحبة المنزل الذي تستأجره ـ على تأخّرها بدفع الأجرة.. تقبل الاعتذار وتخبرها لاحقاً بصدور فاتورة الإنترنت وبأنّها ستدفعها كاملةً لحين تدبّر أمورها.. لم تتوقف المفاجآت والصّدمات هنا، بل أكملها اتّصال عمّتها الصّباحي لتخبرها بأنّ زوجها توفّي بمرض الكورونا الذي يغزو العالم ويقتل من النّاس ضعافهم صحيّاً.. ينتهي الاتّصال وتستذكر محاولته اغتصابها وبمخاوف شبه واقعية تبدأ بالبحث عن فترة حضانة الفيروس وأعراض المرض وكيفية العلاج منه.. لقد تأكّدت من إصابتها وقررت الاستسلام للموت وحيدةً.. يشتدّ المرض وتخرج إلى الفناء لترى النّور وتستنشق هواءً نظيفاً.. يُغمى عليها فتستيقظ في مكان لا تعرفه.. إنّه بيت “أم ياسمين”.
تطوّرات جديدة ومكان جديد وأحداث قديمة وحديثة تتكشف في رواية “سمسق” للقاصّة والرّوائية فاتن ديركي، فأم ياسمين ليست بخيلةً كما كانت تظنّ جيهان التي تستعيد وعيها وتهمّ بالذهاب إلى منزلها، لقد رفضت أن تذهب وهي بهذه الحالة واعتنت بها كما لو كانت ابنتها، وتبدأ سلسلة البوح بغصّات تقابلها دموع غزيرة على ابنتها التي فقدتها في تفجير إرهابي منذ سنوات ومن بعدها زوجها.. أمّا جيهان فتبوح بما أوصلها إلى سرّ ولغزٍ كان سبباً بشقاء والدها، وبينما هي تتحدّث عن حزنه ويأسه واستسلامه أخبرتها أم ياسمين بأنّه الشّاب الذي أحبّته وحاربت بيئتها ومجتمعها لأجله ورحلت معه وتزوجته رغماً عن أهلها الذين أباحوا دمّها لأنّه من دين مختلف، لكنّ أبناء عمومتها لحقوا بهم وأجبروه على الطّلاق منها والاختفاء عنها إلى الأبد.. أمّا هي فسافرت وفي أحشائها ابنته التي لم يعرف بوجودها أبداً.. تصريح عرفت من خلاله “جيهان” أجوبة كلّ الأسئلة التي كانت تشغل بالها، لقد عرفت لماذا كانت “أم ياسمين” فظّةً معها وقاسيةً وهي الآن لم تعد تستغرب الشّبه الذي رأته بينها وبين صورة “ياسمين” المعلّقة في غرفتها.. تصالح مع الذّات ومع الآخر عاشته سيّدتان من جيلين مختلفين وتشاركتا رجلاً واحداً مع اختلاف نوعية هذا التّشارك وزمانه، وها هما اليوم تتشاركان الهمّ والحزن على الرّجل ذاته أيضاً، بل والمرض ذاته، فقد أصيبت أم ياسمين بالعدوى وأثقل المرض جسدها الذي تجاوز السّبعين عاماً، فقررت أن تؤمّن حياة مقبولةً لابنة حبيبها وزوجها السّابق فتنقل ملكية المنزل لها وتودع مبلغاً من المال يكيفها لتعيش فترةً مريحةً إضافةً إلى عملها.
نهاية مفاجئة كالبداية، فالعنوان الغريب يتكشّف معناه في الصّفحة الخمسين وعلى لسان أم ياسمين، تقول: ساعدني زوجي بخبرته كطبيب نسائي، ولدت الطّفلة على يديه.. افتتن ببياضها الياسميني.. فقرر تسميتها سمسق وأصّر عليه كونه الاسم الأصيل لشجرة الياسمين التي كان يعشقها بشكلٍ كبير.
تعتمد ديركي لغة سهلةً بسيطةً وعبارات سلسة وحوارات مختصرة، لتكون الحصّة الأكبر لها كراوية، ما يمنح الفرصة لكلّ قارئ أن يكون مكانها، متنقلةً بين أماكن معروفة وواضحة تعطيها من عاطفتها الكثير، فمنزل أم ياسمين في باب توما بدمشق، وهي منطقة معروفة، وكذلك بيت عمتها في بيروت، وغيرهما، كما أنّها تحدد الزّمان باليوم والشّهر والعام، إذ تبدأ أحداث الرّواية في العاشر من آذار من عام ألفين وعشرين وتنتهي بالثّالث من أيّار من العام ذاته، كذلك الأشخاص أغلبهم معروفو الهوية وخلفياتهم الثّقافية والاجتماعية ومستواهم الفكري معروف وموصوف، نذكر مثلاً زوجها “نوّار” الذي استشهد بعد عام من زواجهما في إحدى المعارك ضدّ الإرهابيين بدير الزّور، تقول: كان شاباً بالثّانية والعشرين من العمر، أسمر البشرة، أسود الشّعر، متوسّط الطّول والصّحة، يحمل كتاباً ودفتراً ويضعهما على ركبتيه في عينيه غابة من الأشجار الخضراء.. كان بقمّة التّهذيب، ينتقي كلماته بعنايةً شديدة، لم يثرثر كثيراً.. بضع كلمات عرفت أنّ اسمه نوّار وأنّه طالب في السّنة الأخيرة صيدلة.
وهي أيضاً شخصيات متحوّلة ومتطورّة غير رتيبة ويجمع كلّ ثنائية منها ـ إن لم تكن مصيبةـ مشكلة تتسبب بألم كبير ينغرس ويحفر له مكاناً في ذاكرتهم، كأخيها “آدم” الذي فقدته والدتها منذ زمنٍ طويل ليعود بقذارةٍ وبشاعةٍ تعفّن ذاكرتها وتنهش جسدها حتّى الموت الذي لم تغلّفه فاتن ديركي بياسمين أبيض، بل بعازفة كمان ترتدي ثوباً أحمر، وهي لوحة تشبه وقوفها ـ لاحقاًـ على خشبة المسرح واحتضانها الكمان خلال حفل توقيع رواية مشتركة لها ولأصدقائها في مكتبة الأسد الوطنية.
يُذكر أنّ الرّواية حاصلة على جائزة التّكافل الاجتماعي في زمن الكورونا للإبداع الرّوائي 2020 وصادرة عن دار بعل للطّباعة والنّشر 2021.
نجوى صليبه