صحيفة البعث

قمر البلاد.. لا يرحل !!

أعترف، بأنني كنت أبكي، وأنا أكتب كل سطر من سطوري هذه، مثلما بكيت وأنا أرى  شيرين أبو عاقلة تهوي فجأة كي تقبّل الأرض الفلسطينية العزيزة على مدخل بوابة مدينة جنين البطلة، وتحت شجرة زرعها الأجداد، وإلى جوارها زميلتها في الإعلام التي أفزعها المشهد فبدا جسدها كلّه يبكي مثل غابة ترتجف!

وأعترف أنّ مثل هذا البكاء الذي ماشى أسطري لم أعهده منذ أن رأيت محمد الدرة يستشهد وهو يلوذ بوالده جمال الدرة، والرصاص يمطرهما بالحقد أمام عدسات التصوير جهاراً نهاراً، تماماً مثلما حدث لابنة القدس الغالية شيرين أبو عاقلة، لأن القاتل هو نفسه، وبالرصاص نفسه!

واستباقاً لكلّ قول، أشير إلى أنّ عدوّنا النقيض الذي ارتدى ثوب التوحّش منذ عام 1948، وراح يبدله مثل الأفاعي، وحتى هذه الساعة، يظن أنّه بممارساته الشيطانية/ النازية هذه يدافع عن وجوده كي يبقى، وهو يعلم في قرارة نفسه أنّه يكتب شهادة وفاته، وأنّه يُري العالم آخر صوره الباطشة، وأنه يبدي أوراقه السود المصبوغة بالدم والحقد والهمجية كعادته، وأنّه يعزّز الرواية الفلسطينية بأنّه طارئ وسارق وجهول وقاتل لا يعرف معنى سامياً من معاني القيم الإنسانية النبيلة!

شيرين أبو عاقلة التي زفّها الشعب الفلسطيني عروساً بثوبها الفلسطيني المطرز، في جنازة طولها 75 كم، من جنين البطلة إلى القدس مهجة القلب، قطعها مشيّعوها والدروب تباريهم، والأشجار تحفّ بهم، والطّيور تحلّق فوقهم، والغيوم تهبط نحوهم، والبيوت والتلال والجبال والأودية تناديهم بهتاف واحد: النصر صبر ساعة، وتكبيرات المساجد تعانق صلصلة أجراس الكنائس في كلّ البلاد الفلسطينية العزيزة، والأعلام الفلسطينية تتصادى في الأجواء نوافذ أمل وعزّة أنارها الدم الفلسطيني المسكوب يومياً، ولا كلام لخواتيم أنفاس الشهداء وكلامهم سوى: أرواحنا لك.. يا فلسطين!

شيرين أبو عاقلة، وبهذا الرحيل الذي رجّ الصدور، والذواكر، والتواريخ، والكتب، والأرواح، والبيوت والشوارع والحقول والمشاعر.. تقرّب المسافة مابين الشوق واللقاء، وما بين العاشق والمعشوق، إنّها وبهذا الرحيل المهيب، تعلي  المعنى الذي دار الفلسطينيون حوله دورة طلّاب الحرية والمجد، والثبات والنصر منذ قرن من مقارعة الظلموت الاحتلالي الذي تغوّل حتى صار نقيضاً للعدالة والحق والضوء والجمال والخير؛ و شيرين أبو عاقلة بهذا الاختتام السّامي، بدت ابنة لكلّ أمّ وأب ذاقا طعوم الاحتلال الإسرائيلي المُرّة، وبدت شقيقةً للقرى والمدن والمعاني التي صبغتها وحشية الإسرائيليين بالدماء والفقد والخوف منذ يوشع بن نون وحتى رصاصة القنّاص الإسرائيلي الأخيرة التي أصابتها!

شيرين أبو عاقلة، وكما تعلمين، نحن في كلّ يوم نبكي، ونحن نودّع الأبناء الأعزّاء، ذكوراً وإناثاً، وهم في طراوة العمر، وعلى مقاعد الدراسة، وفي أول دروبهم نحو أحلامهم المشتهاة، نودّعهم في كلّ خروج لهم من البيوت، ونودّعهم أيضاً داخل البيوت لأنّ وحشية الإسرائيلي انتشرت سموماً قاتلة في الهواء، بلى نحن نبكي في كل يوم لأنّنا نحلم بالحياة السعيدة في قرانا ومدننا، مثل أي كائن دنيوي يحلم بالسعادة والأمان في بلاده، لكنّنا وفي لحظة واحدة نرتطم بالواقع لأنّ الوحش الاسرائيلي يتقفّى خطونا، وفي كلّ مكان، كي يهدر دمنا، بلى نحن اليوم نبكيك يا ابنة البلاد العزيزة، يا شقيقة الروح والزيتون، شيرين أبو عاقلة، كما لم نبكِ من قبل لأنّ قوس الحزن أحاطت بنا، وقنطرة الألم الوجيع حاصرتنا، ونحن نرى هذا العالم الجهول الأعمى الأخرس المشلول لا يفعل شيئاً تجاه هذا الغول المتوحّش الذي يزداد تعطّشه يوماً بعد يوم، لسفك الدماء الفلسطينية!

شيرين أبو عاقلة، وقد  سابقت جهجهة الفجر وأنت ترتدين زي أهل الصحافة والإعلام، لتمضي قبل شروق الضوء مسافة 75كم لتقولي الحقيقة للعالم أجمع: هذا هو القاتل الاسرائيلي، وهذا ما يفعله الباطش الإسرائيلي منذ عام 1948 بأهل فلسطين، بلاد سيدنا المسيح عليه السلام، فانظر واسمع وتحرك أيها العالم الحجري!

آه يا شيرين أبو عاقلة، يا شقيقة البساتين والرياحين والكتب.. أنت اليوم قمر البلاد بأنواره الآبدة، ونحن حراسه!

حسن حميد