الساعة بـ 30 ألف ليرة.. موسم الامتحانات يرفع “بورصة” الدروس الخصوصية!
ميزانية خاصّة جرت العادة على تخصيصها من قبل الأسرة السورية لجيوب المعلمين مع اقتراب موسم امتحانات الشهادتين الثانوية والإعدادية، والحال هذه قائمة منذ أكثر من عشر سنوات، شهدت فيها المنظومة التعليمية تراجعاً لم يعد خفياً على أحد، ولاسيّما مع غزو المدارس الخاصّة وتوجّه الأهالي إلى تدريس أبنائهم فيها طمعاً بجودة التعليم التي باتت تُقاس من وجهة نظر الكثيرين “بالدفع الأكثر”، فكلما ارتفعت أقساط التعليم الخاص ازداد تفوق الطالب، لكن عاماً بعد عام بدأ الكثير من الأهالي يحصدون فشل أبنائهم في أغلب الجهات التعليمية، سواء الخاصّة أو الحكومية، مُلقين اللوم هذه المرّة على صعوبة المناهج التعليمية والتي تعمل الوزارة على تطويرها كل فترة مع رفع مُعدّل صعوبتها لأسباب ملغومة، ليسلك الأهالي هذه المرة طُرق “الدروس الخصوصية” التي أثقلت كاهلهم وباتت ميزانيتها تسبق ميزانية الطعام، وخاصّة خلال موسم الامتحانات.
بورصة تعليم
ومع ارتفاع أسعار جميع السلع والمواد واتجاه الأطباء والصيادلة وأصحاب الورشات لرفع تسعيرتهم بشكل اعتباطي، وجدنا أن أسعار الدروس الخصوصية هي الأخرى تتجه نحو أرقام خيالية دون حسيب أو رقيب، إذ تجاوز سعر ساعة إحدى المواد العلمية الـ 30 ألف ليرة لأستاذ استغلّ خبرته في التدريس وحاجة الأهالي، المتمسكين بأي “قشّة” خلال فترة الامتحان، على أمل نجاح وتفوق أبنائهم، لنشهد خلال الشهر الحالي بورصة حقيقية في أسعار الدروس الخصوصية المُنافية أساساً لقانون وزارة التربية والخاضعة لشروط وتحكّم الأساتذة ممن ضربوا هذا القانون عرض الحائط متخلّين عن أخلاقيات هذه المهنة المُقدسة تحت حجج عدم إنصافهم من قبل الوزارة برواتبهم الزهيدة تجاه الجهد المبذول أو بالقوانين والقرارات الصادرة عنها!.
ميزانية مستقلّة
ولعلّ الأمر اللافت اليوم هو توجّه الأهالي إلى وضع أبنائهم عند أساتذة خصوصي من الصف الأول الابتدائي وقبل معرفة مستوى تحصيلهم العلمي لقلّة ثقتهم بإعطاء أغلب المدرّسين للمنهاج بشكل جدّي وكامل كما يفعل في ساعاته الخصوصية، وخاصّة مع كثرة شكاوى الطلاب من عدم استطاعة الكثير من المدرّسين إتمام وإنهاء قسم كبير من المنهاج الثانوي المقرّر خلال العام الدراسي، وترك الطالب في دوامة البحث عن سبل بعيدة عن المدرسة لإنهاء المنهاج المقرّر في الامتحان النهائي، فعلى الرغم من ضعف الدخل وحاجة أغلب الأسر لأي مصدر إضافي لتأمين متطلبات وحاجيات المنزل إلاّ أن ميزانية هذه الدروس تتصدّر قائمة الاحتياجات حتى في مناطق القرى والأرياف التي لم تسلم هي الأخرى من هذه “الموضة” لكن بأسعار مقبولة، إذ لم تتعدَ ساعة أي مادة الـ5 آلاف ليرة رأفة بحال القرويين المغلوب على أمرهم والمُفتقدين لمصدر دخل ثابت، خاصّة وأن مواسمهم الزراعية لا تُسمن ولا تُغني من جوع، لنجد أن أسعار الساعات الخصوصية لا زالت “رحمانية” ويمتهنها أساتذة لهم من الخبرة في مجال التعليم عشرات الأعوام، في المقابل نجد أن إعطاء هذه الساعات باتت عمل من لا عمل له في المدن!.
أوكازيون الخصوصي
وتطغى على صفحات مواقع التواصل الاجتماعي خلال هذا الشهر إعلانات الدروس الخصوصية، والتي تعود أغلبها لطلاب جامعة لا زالوا في سنواتهم الجامعية الأولى، إلّا أنهم وجدوا في هذا الباب مصدراً ليس بالقليل في توفير مصروفهم الشخصي، ولاسيمّا مع تقديمهم عروضاً على ساعاتهم الخصوصية كإعطاء ساعة مجانية مع كل ساعتين، أو تخفيض سعر الساعة إلى أكثر من النصف في حال اجتمع أكثر من خمسة طلاب مع بعضهم ضمن هذه الساعة كصفّ مصّغر لكن بمال أكثر، ومن الأمور التي تثير الدهشة أن التدريس الخاص بدأ يستحوذ على مرحلة الروضة أيضاً، إذ صادفنا في أحد الإعلانات بحثاً عن معلمة تساعد الأبناء في مرحلة الروضة وتتابع منهاجهم بشكل يومي.
الأهل هم السبب
يُلقي محمد الضاهر “موجّه تربوي” اللّوم الأكبر على الأهالي الذين تمادوا في هذه الظاهرة من خلال تسليم أبنائهم لأي مدرس خصوصي تحت أي مبلغ يطلبه الأستاذ، دون حسبان عواقب هذا السلوك ومقدار الأذى الذي سيجنيه الطالب في علاقته مع المدرسة بعد أن ينحصر اهتمامه بما يتلقاه من مدرّسه الخصوصي فقط، وبالتالي جعل الذهاب إلى المدرسة تحصيل حاصل للهو وإضاعة الوقت، الأمر الذي يدفعه إلى إهمال واجباته المدرسية وعدم التركيز في المدرسة. ويرى الموّجه التربوي حاجة ملّحة اليوم لاتخاذ خطوات واضحة من قبل وزارة التربية لتحسين مستوى الأداء التدريسي في المدارس العامة التي أصبحت تصدّر الطلاب إلى ميدان الدروس الخصوصية، أو تطبيق حلول أنجع وأسلم في إعطاء هذه الساعات من قبل المدرسة ذاتها بتخصيصها يوماً في الأسبوع بمعدل ساعات معيّنة يتمّ خلالها مراجعة ما تمّ إعطاؤه على مدار الأسبوع من قبل الأساتذة أنفسهم بأسعار رمزية، وهذا ما اتبعته بعض المدارس ولاقى قبولاً ورضا عند الأهالي والطلبة والمدرّسين في آن معاً.
سرطان مخيف!
الاقتصادي إسماعيل مهنا وصف الدروس الخصوصية بالسرطان المخيف الذي استحوذ على عقول أغلب الأسر السورية، لتصبح هذه الساعات التدريسية عبارة عن ماكينة استنزاف لطاقة الطلاب والأهالي معاً. ورفض مهنا تعميم الطريقة الخاطئة التي يقوم أغلب المدرّسين في شرح المناهج اليوم، إذ لا زال قسم كبير منهم يبذلون أقصى الإمكانيات لإيصال المعلومة للطلبة واحتفاظهم بصون الرسالة المقدسة التي يؤدّونها، لكن في المقابل انتهجت شريحة أخرى منهج الاستغلال والابتزاز واصطياد جيوب الأهل والاستثمار في أحلامهم بطريقة لا تليق بمكانة المعلمين تحت ذرائع عديدة، أهمها عدم كفاية الدخل الشهري واعتمادهم على هذه الدروس كمصدر أساسي للدخل تحت مسمّى التدريس التجاري الذي استنزف وأرهق جيوب الأهالي ممن يذهب أكثر من 50% من مدخولهم الشهري إلى جيوب المدرّسين الخصوصيين خلال الأشهر التي تسبق الامتحانات النهائية على عين وزارة التربية، والتي على ما يبدو راضية كل الرضا عن هذه البورصة الحقيقية لأسباب خفية. ويرى الاقتصادي مهنا أن هناك ضرورة ملحة للبحث عن حلول وبدائل تُرضي جميع الأطراف بحيث تُبعد صفة السلعة التجارية عن مهنة التدريس من خلال فرض رقابة جدّية على المُتاجرين بهذه المهنة، وخاصّة غير المتخصصين بها من طلبة الجامعة وموظفي الدولة ممن وجدوا بها أيضاً مصدراً للدخل، إضافة إلى ضرورة تغيير منظومة التعليم ككل والابتعاد عما تتبعه الوزارة في تطوير المناهج وزيادة صعوبتها بشكل سنوي تقريباً، وإحلال بدائل أخرى أنجع في التحصيل العلمي كإعادة النظر في أسلوب امتحانات البكالوريا ونُظم القبول في الجامعات العامة، كذلك ضرورة تغيير نظام التقييم في المراحل الدراسية كالثانوية العامة وإضافة نتائج جميع المراحل الدراسية إلى نتيجة البكالوريا بحيث يكون التقييم النهائي تراكمياً، لافتاً إلى أهمية وجود قانون وعقوبات رادعة وحقيقية لمن يُعطي هذه الدروس المدفوعة الأجر مع فرض غرامات عليهم، خاصّة وأن البعض منهم فاقت أجوره لهذه الساعات الخاصّة الخيال وباتوا من أصحاب الثروات خلال السنوات الأخيرة.
للأسف باتت الدروس الخصوصية وجهاً جديداً للفساد، ومكمن خطورته أنه في مجال التعليم والتربية، ما يجعل العواقب وخيمة إن لم تتمّ السيطرة على المشكلة.
ميس بركات