الاستثناء من “العقوبات”.. تخبط مشبع بالحقد والكراهية
بسام هاشم
منذ سنوات طويلة تتخبط الإدارات الأمريكية المتتابعة في بناء استراتيجيات واضحة تجاه سورية. ولأنها تتخبط، “بحصر المعنى”، فهي أشد خطراً وكارثية من أعتى السياسات المناوئة والعدوانية، ذلك لأنها تنطوي، في أغلب الأحيان، على ارتدادات وانعكاسات غير مؤهلة للضبط، وغير قابلة للتوقع، بل وتحمل في تضاعيفها أسوأ الاحتمالات وأشدها تنافراً واستعدادية للمضي إلى أقصى حدود التطرف. فهنا، في سورية، وفي مواجهة السياسات الأمريكية، نحن على الدوام أمام جبل هائل من القرارات والخطوات المشبعة بالحقد الأعمى والكراهية غير المفهومة، وبالرغبة الهوجاء في الانتقام والتشفي، وبالغرق بالأحكام المسبقة المغلوطة والمبتذلة، والمبنية، بقدر كبير من الأمية السياسية، استناداً إلى حسابات وتقديرات لوبيات إسرائيلية وأوليغارشيات أنانية، وجاهلة، يمكن بيعها وشراؤها بدولارات قليلة؛ بل ولربما بأرخص من ذلك، غير أنها لوبيات تتحكم – للأسف -بقرارات الحرب والسلم، والحظر والترخيص، والتهدئة والتوتر.. والإعفاءات مما يسمى “قانون قيصر”!!
لكنها سياسات كانت دائماً محكومة بالفشل الذريع، وقد كشفت في كل الأحيان عجزها المزمن عن ترسيخ أي معطيات يعتد بها، أو إمكانية خلق وقائع ثابتة، أو امتلاك القابلية للاستمرار على أرض الواقع. وبالنتيجة، لم تتجاوز المحصلة الأمريكية المعتادة، على امتداد عقود المواجهة المحتدمة بين البلدين ( أو المواجهة مع “النظام”، كما يحلو للأمريكيين أن يرددوا ) حدود الاعتراف المتأخر بالفشل، وعلى مضض، في الأروقة الداخلية، وبعض التنازع المؤسساتي لأغراض الانتهازية السياسية المعروفة، مترافقاً ببعض الخلاصات والدروس التي تسارع لنشرها الصحافة السائدة أو مراكز الأبحاث الممولة من الأجانب، وخاصة الدول النفطية الخليجية، فيما، بالمقابل، لا يلقي أحد بالاً لاستنزاف المقدرات والموارد الاقتصادية والبشرية للشعب السوري – هكذا مجاناً وبدون أي مساءلة أو تعويض أو مقابل.. ولحقبة كاملة – ولا للتصدعات الثقافية والتربوية التي قد يصعب ترميمها ربما خلال جيل أو أكثر، ولا للجروح التاريخية الغائرة والتي قد لا تندمل ببساطة، خاصة إذا ما كان هناك “متعاونون” (عملاء وخونة بصريح العبارة) ربطوا مصيرهم الشخصي بالسياسات الأمريكية، ويعملون بتواطؤ كامل على ربط مستقبل سيطرتهم ومناطق سيطرتهم باستمرار وجود الأمريكيين كقوات احتلال وآلة عسكرية أجنبية. وبالطبع، قد لا يصدق الكثيرون أن هؤلاء (وهم هنا “أشايس” الإدارة الذاتية في منطقة الجزيرة السورية) غرباء، وأنهم يخططون لانتزاع ملكية أرض دخلوها كمستوطنين أجانب، ويدنسونها الآن بهذه الصفة..
إن استثناء هؤلاء من العقوبات الأمريكية، ورفع “العقوبات” المفروضة على الاستثمارات الأجنبية لا يعني، وعلى خلاف ما أعلن عنه، لا يهدف إلى “تسريع وتيرة المساعدة الإنسانية وتقليل الأضرار الاقتصادية في مناطق معينة، بل المقصد هو التخفف من أي “مساعدة” أو “دعم مستمر” يحتاج إليه ما يسمى اقتصاد “الإدارة الذاتية”، وبحيث يتم السماح للشركات الأجنبية ( المقصود الأمريكية لكي لا نخطئ الفهم ) بالاستثمار في قطاعات مثل الزراعة والاتصالات والخدمات الصحية والتعليم، من خلال إطلاق يد الأوليغارشيا المالية في واشنطن لاستغلال المواطنين السوريين، بتفويض من سلطة موصوفة “محلية” هي سلطة الأمر الواقع الإرهابية، وتحقيق أرباح فاحشة على حسابهم، حيث ستتحول المنطقة إلى حقل شراكة بين متزعمي العصابات الانفصالية وبين عائلة تشيني التي تستثمر في النفط والزراعة السورية، تماما كما يستثمر هنتر بايدن، ابن الرئيس الأمريكي، في أوكرانيا، وكما تستثمر عائلة ترامب في السعودية.. والقائمة لا تنتهي. وهنا فإن المبد نفسه الذي لجأت إليه إدارة ترامب للالتفاف على سحب القوات من خلال تمويل بقائها من النفط السوري، تستعيده اليوم الإدارة الديموقراطية عبر “فرص تمويل” استثمارية لا تخدم مصالح الدولة الأمريكية وسياساتها بقدر ما تمعن في رهن هذه المصالح والسياسات لحسابات شخصية وعائلية (أوليغارشية) يبدو واضحاً أن مصير الولايات المتحدة الأمريكية والمصالح العليا الأمريكية بات مقيداً بها.
ففي الجزيرة السورية، تزرع معظم المحاصيل الاستراتيجية، بما في ذلك القمح والشعير، وهناك النفط والغاز، ولربما لذلك تدغدغ الأسطورة المؤسسة لـ “الحلم الأمريكي”، مخيلة
مغامرين يعتقدون أن أي سرقة عالمية يمكن أن تتحول إلى حقيقة ممكنة طالما أن في واشنطن من يستطيع أن يهمس لبايدن العجوز برغبته في ذلك.
خلال أقل من عامين، تحولت الاستراتيجية الأمريكية في مناطق شمال سورية من سحب القوات إلى الاستثمار في “الشراكة” إلى العودة إلى فتح القواعد العسكرية المهجورة؛ ومن محاربة “داعش” إلى إعلان هزيمتها، إلى إعادة العمل بـ “الحرب على الإرهاب” من خلال إطلاق “حرب لا نهاية لها” جديدة.. الأمريكيون يتخبطون وكل هذه التحولات لا تشي إلا بالخسارة المقبلة والحتمية والقريبة.