تعليق سريع على ما ورد في ((كلمة البعث السابقة)): “منظومة الإرهاب الدولية”
أ. د. توفيق شومر / عمان
جاء المقال في لحظة حرجة في مفاهيم الجغرافيا السياسية، والتحولات الكبيرة التي تحدث اليوم على مشهد التحالفات الدولية. فزمن الهيمنة الأمريكية إلى أفول، ونحن نشهد اليوم الإرهاصات الأولى لتبدل المنظومة العالمية ليس فقط على المستوى السياسي والتحول من أحادية القطبية إلى القطبية المتعددة، ولكن أيضا على صعيد بروز المقدمات الضرورية لإمكانية تفكك النظام النقدي العالمي، النظام الذي أقر بعد الحرب العالمية الثانية، أي منظومة بريتن وودز، ومآلاتها، والتي جعلت من الدولار عملة مهيمنة في الاقتصاد العالمي.
وليعذرني الرفيق لإبداء بعض الملاحظات المهمة في هذا المقال:
إن المواقف السياسية لا يمكن التعبير عنها من خلال مدارس فلسفية، وخاصة عندما تكون هذه المدارس ليست سياسية في جوهرها، ولكن من خلال استخدام المفاهيم النظرية المعبر عنها فلسفياً في الأفق السياسي. وعليه، فيمكن استخدام أفكار فلسفية عامة بطرق مختلفة، فعلى سبيل المثال لا الحصر، فقد تم استخدام أفكار “ما بعد الحداثة” المتمثلة في رفض السرديات ورفض العلم، ورفض مفهوم الحقيقة، من قبل الإمبريالية، في محاولتها لمواجهة المعسكر الاشتراكي.
لقد كان فكر ما بعد الحداثة أسلوباً ممتازاً لتعميم الفردانية والذاتية المطلقة، فلا حقيقة خارجة عن الذات وكل شيء ممكن. وقد تكون المفارقة الأكبر أن معظم مفكري “ما بعد الحداثة” – وخاصة في الفكر القاري – هم من الماركسيين الذين صدموا من مواقف الماركسية المدرسية من الثورة الطلابية في فرنسا 1968، ولكن في محاولتهم لمعارضة الماركسية الرسمية فتحوا المجال واسعاً للإمبريالية لتستخدم الكثير في مفاهيم “ما بعد الحداثة” في الحرب الثقافية بين الإمبريالية والاشتراكية أيام الحرب الباردة. وبالتالي ومع انتهاء الحرب الباردة أصبح هناك ضرورة، من وجهة نظر الإمبريالية، لتجاوز فكر ما بعد الحداثة، لكون هذا الفكر حاول، في بعده الآخر، رفض السلطة ورفض الهيمنة، وهذه المفاهيم لا تروق للإمبريالية، وبالتالي تم دعم أفكار “ما بعد – ما بعد” الحداثة، وما بعد الإنسانية وغيرها في المفاهيم الساعية لتفكيك وتفتيت المجتمعات.
وللعلم، فإن للمفكرين الذين أشاد بهم المقال مواقف صادمة من الكثير من السياسات العالمية. فهم ليسوا معبرين عن موقف فكر سياسي محدد، يعبر عن اتجاه سياسي محدد، كأن يكونوا جميعاً ضد السياسات الإمبريالية بصورة عامة، أو أن يكونوا مع “الإنسانية” بشكل عام، فمفهوم “الإنسانية” كان محل نقد وتحليل من قبل “فوكو مثلاً، بينما دريدا يفكك مفهوم كذبة “إسرائيل” وتحولها إلى “حقيقة”، دون أن يرفض هذا الكيان سياسياً، أي أنه قدم مجرد محاولة للعب في الخطاب، ولم يقدم موقفاً سياسياً على الأرض. وبالتالي، فمن غير المفيد الارتكاز على “ما بعد الحداثة” كموقف مناهض للإمبريالية لأنه موقف فكري وليس موقفاً سياسياً.
ومن ناحية أخرى، فإن الموقف في فلسفة العلم هو موقف مربك هنا، فالمواقف الذي يتحدث عنها المقال هي مواقف معرفية وليست مواقف سياسية، وبالتالي (وهم الحياد العلمي) ليس موقفاً للإمبريالية أو لليبرالية الجديدة، بل هو موقف ثوري في بعض الأحيان، ويمكن لمن يتبناه أن يكون ثورياً على المستوى السياسي، وكذلك بالنسبة (للصلة بين العلم والايديولوجيا). وللمفارقة، فإن أول من نظّر لعدم حياد العلم ولصلة العلم بالإيديولوجيا هم أنفسهم الذين تم اقتباسهم في مقاله، أي فوكو وليوتارد وبارت. وبالتالي، فإن اقحام هذه الأفكار والرموز في جدل سياسي غير مفيد، ويضعف من الموقف. ولو أن الكاتب توقف فقط عند نقد مفكري الأيديولوجيا النيو – ليبرالية دون الدخول في فضاءات الفلسفة لكان أفضل للجميع.
أي كان يجب التركيز على فوكوياما وهنتنجتون ونقد أفكار الليبرالية الجديدة في الفردانية المطلقة، وفي نزعتها اللا – إنسانية، دون الادعاء أن الموقف المقابل لها هو موقف “ما بعد الحداثة”، وكأن ما بعد الحداثة هي اتجاه ثوري معاد للإمبريالية وللفردانية.