الأمن الغذائي العالمي رهينة الصراع
عناية ناصر
أدّى الصراع في أوكرانيا إلى حدوث أزمة غذاء عالمية، مما يهدّد صحة وسبل عيش ملايين الأشخاص حول العالم، ونتيجة ذلك بدأت أوروبا تحسب تكلفة الاعتماد على الوقود الأحفوري المستورد. ومع استخدام إمدادات الغاز بالفعل كسلاح، واعتبار القمح ورقة مساومة على حياة الملايين، تظل احتمالية بقاء الأمن الغذائي العالمي رهينة الصراع.
لقد تمّ تصنيف أسعار القمح على أنها شديدة التقلب لأكثر من 150 يوماً، حيث ارتفعت في أعقاب الصراع الروسي الأوكراني، ولكن في سوق السلع التي تتعامل في العقود الآجلة -ارتفعت بنسبة 50 في المائة منذ بدء الحرب- لم يتمّ الشعور بالتأثير الكامل بعد، مع موعد حصاد القمح القادم في أوكرانيا في شهر حزيران القادم.
إن هذه التداعيات آخذة في الازدياد، حيث انخفض استهلاك القمح بنسبة 5 في المائة بين فقراء الحضر في السودان المعتمد على الاستيراد، وهو بلد يصنّف بالفعل على أنه يعاني من مشكلات “خطيرة” في مجال الأمن الغذائي. كما شهدت مصر، أكبر مستورد للقمح في العالم، إلى جانب بقية منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، ارتفاعاً في الأسعار وعدم كفاية العرض. ونتيجة لذلك، يجب حماية الغذاء وإعطاؤه الأولوية كحق من حقوق الإنسان، كما يجب على العالم، قبل أسابيع فقط من موسم الحصاد المقبل، ولاسيما جنوب الكرة الأرضية، التحرك بسرعة للتخفيف من التهديد الذي يواجه الأمن الغذائي العالمي. وتحقيقاً لهذا الغرض، يحتاج صانعو السياسات إلى اتخاذ إجراءات عاجلة ومستندة على الأدلة لمنع الأزمة التي تلوح في الأفق من الانتشار في جميع أنحاء العالم. ويجب عليهم أيضاً، في الوقت نفسه، اتخاذ القرارات الصحيحة على المدى الطويل، لأن هذه الأزمة لن تكون الأخيرة التي تزعزع استقرار الأسواق العالمية والإمدادات الغذائية. كما يتوجب على المجتمع العالمي أن يكثف جهوده لتلبية الاحتياجات الإنسانية العاجلة للمتضررين بشكل مباشر الآن، وأن يكون أكثر استعداداً لمواجهة الصدمات الغذائية في المستقبل.
وفي هذا السياق، سيوفر الاستثمار في العلوم والبحوث والابتكار الزراعية الحلول ويدعم السياسات القائمة على الأدلة. كما يمكن للحكومات الاستفادة من البحوث الحالية والدروس المستفادة من أزمات الغذاء السابقة لاتخاذ قرارات استراتيجية ذات احتمالية أكبر لمنع نقص الغذاء، ومواجهة ارتفاع الأسعار والجوع، وكذلك لبناء قدر أكبر من المرونة على المدى الطويل من خلال أنظمة غذائية أكثر تنوعاً وإنصافاً.
وبالإضافة إلى ذلك يجب تفعيل المساعدة الهادفة والحماية الاجتماعية، مع مراعاة احتياجات الفئات الضعيفة بشكل خاص، وتقييم المساعدة التمويلية المحلية والدولية للبلدان منخفضة الدخل التي تتطلّب متطلبات استيراد كبيرة. كما يجب تعليق استخدام الوقود الحيوي لتحويل القمح والمحاصيل الأخرى إلى إنتاج وقود الإيثانول للمساعدة في تجنّب أزمة أنظمة الغذاء العالمية. ويمكن للمزارعين وصانعي السياسات في سلال الخبز البديلة في جميع أنحاء العالم دعم زيادة إنتاج القمح، وكذلك الحبوب الأساسية الأخرى لسد فجوة العرض.
على مدى السنوات العشر الماضية، تبنّت الهند أكثر من 100 نوع جديد من القمح، وأدرجت الحبوب في أنظمة مختلطة من الأرز والقمح لتنويع الإنتاج وتحسينه، لكن ارتفاع أسعار الوقود والأسمدة، الذي تفاقم بسبب الصراع، يعيق جهود التكثيف والتنويع هذه. وفي الوقت نفسه، يجب على الحكومات والممولين والقطاع الخاص والمؤسّسات على المدى المتوسط إلى الطويل إعطاء الأولوية للبحث والتطوير في مجال الزراعة لدفع التحول نحو نظام غذائي عالمي أكثر استدامة ومرونة، وبالتالي مقاوماً للصدمات.
هناك حاجة إلى ابتكارات لتحسين إدارة المحاصيل وأنظمة الثروة الحيوانية والسمكية، وزيادة الغلات بشكل مستدام، من خلال استخدام الأرض والمياه والأسمدة بحكمة. كما أن الزيادة المستدامة في الإنتاج ستساعد بدورها في خفض تكلفة الغذاء، مما يجعل النظم الغذائية الآمنة ميسّرة ويسهل الوصول إليها بشكل أكبر.
تتمثّل إحدى طرق دعم ذلك في تسريع تربية أنواع جديدة ومحسنة من المحاصيل الرئيسية لزيادة الإنتاج ضمن حدود النظم البيئية والموارد المحلية. وفي هذا الخصوص، طوّر علماء مركز معهد البحوث الزراعية غير الربحي “سي جي أي أيه أر”، والذي يهدف إلى الحدّ من الفقر في الريف، وزيادة الأمن الغذائي، وتحسين صحة الإنسان وتغذيته، والإدارة المستدامة للموارد الطبيعية. ومع ذلك، مع استمرار تغيّر المناخ وتفاقم التحديات التي تواجه النظم الغذائية، تحتاج هذه السلالات والخصائص إلى ضبط مستمر. إضافة إلى ذلك يحتاج العالم إلى تحول منهجي نحو مزيد من المرونة والاستقرار على المدى الطويل في أنظمة الغذاء والأراضي والمياه، فالجوع لا يعترف بحدود ولا دول، ويجب على المجتمع العالمي وضع كل مورد تحت تصرفه لمنع الغذاء من أن يصبح سلاحاً في الحرب.