أمريكا المغرمة بإصدار العقوبات
هناء شروف
إذا كنّا نتحدث عن حزب أو دولة تفرض عقوبات، فإن لقب “أم كلّ العقوبات” يجب أن ينتقل إلى الولايات المتحدة. وتفيد المعطيات أن ثلثي العقوبات الـ104 التي صدرت في جميع أنحاء العالم من عام 1945 إلى عام 1990 بمثابة إجراءات أحادية الجانب للولايات المتحدة، فقد فرضت أكثر من 40 عقوبة اقتصادية على 36 دولة، وفقاً لمجلس التصدير التابع لرئيس الولايات المتحدة منذ عام 1993.
في أعقاب الصراع الروسي الأوكراني، قادت الولايات المتحدة حلفاءها لفرض أكبر مجموعة من العقوبات على روسيا، والتي وصفها بعض المحلّلين بالفعل بأنها “حرب نووية اقتصادية”. واشنطن ليست مولعة فقط بفرض عقوبات مباشرة، بل مغرمة أيضاً بإصدار عقوبات فرعية هدّدت بكين بها إذا قدمت الأخيرة دعماً مادياً لروسيا. إن المعنى الدقيق لـ”الدعم المادي” يعود بالطبع إلى تفسير الولايات المتحدة، ناهيك عن أن الهند لم تتعرّض لهذا النوع من الإكراه المهيمن على الرغم من شراء القدر نفسه إن لم يكن أكثر من النفط من روسيا مثل الصين.
حتى لو وضعنا جانباً مسألة شرعيتها، فإن سجل العقوبات يظهر جانبها القبيح، فالعقوبات تقتل الناس بقدر ما تقتل الدبابات والطائرات المقاتلة، إنها تقتل الكثيرين وهنا تكون العقوبات تماماً كأسلحة التدمير الشامل.
في ورقة نُشرت في مجلة “فورين أفيرز” في عام 1999، بعنوان “عقوبات التدمير الشامل”، كتب المؤلفان جون مولر وكارل مولر: “بحساب الخسائر التي تسبّبت بها الدول المارقة والإرهابيون والأسلحة غير التقليدية، يتبيّن أن عددها صغير بشكل مدهش مقارنة بخسائر العقوبات الدولية والوفيات الناجمة عنها. الحسابات واقعية وينبغي أن تدفع الولايات المتحدة إلى إعادة النظر في سياستها الحالية. لكن على الرغم من اختلافها عن تلك المفروضة على جمهورية كوريا الديمقراطية وكوبا والعراق وإيران فإن العقوبات الأمريكية ضد روسيا ستؤدي إلى وفيات ليس فقط في روسيا ولكن أيضاً خارج حدودها”.
روسيا هي مصدر عالمي رئيسي للمنتجات الزراعية والطاقة، لذلك سيؤدي ارتفاع أسعار هذه المنتجات إلى ارتفاع أسعار العديد من المنتجات الأخرى في الصناعات ذات الصلة والصناعات التحويلية. ومع ارتفاع أسعار هذه المنتجات، ستواجه البلدان التي تعتمد على وارداتها صعوبات جسيمة، وسيكون السكان الفقراء هم أكبر الضحايا. وخير مثال على ذلك سريلانكا الغارقة في أزمة اقتصادية ناجمة عن نقص احتياطيات النقد الأجنبي وارتفاع أسعار السلع المستوردة. ومع ذلك فإن سريلانكا ليست وحدها، فالعديد من دول شمال أفريقيا التي تعتمد بشكل كبير على الواردات الزراعية الروسية تشعر بالأزمة، كما تواجه أفغانستان وضعاً شبيهاً بالمجاعة نتيجة لرفض واشنطن الإفراج عن أصول البنك المركزي الأفغاني.
ومع ذلك، فإن البلد الخاضع للعقوبات والذي يعاني مواطنوه من أضرار جانبية ليس وحده من يدفع الثمن، لأن الطرف الذي أصدر العقوبات سيدفع هو الآخر ثمناً باهظاً. وعلى المرء فقط أن يسأل الأوروبيين عن تأثير ارتفاع أسعار الطاقة ليدرك مأزقهم، وفي الولايات المتحدة أيضاً ترتفع أسعار البنزين بسرعة، ويُعتقد على نطاق واسع أن التضخم الجامح الحالي في الولايات المتحدة له علاقة بالعقوبات الأمريكية ضد روسيا.
في الواقع يقول تقرير مجلس التصدير الصادر عن الرئيس الأمريكي أيضاً إن العقوبات كلفت المصدّرين الأمريكيين ما بين 15 و19 مليار دولار سنوياً في المبيعات الخارجية، وأضرّ بسمعتهم كموردين موثوق بهم. وحتى إذا حقّقت العقوبات بالفعل أهدافها السياسية، فقد تظل التكاليف الباهظة غير مفهومة، لأن السياسيين الذين يصدرونها عادة لا يهتمون بمعاناة الناس في البلدان المتضررة. ولكن حتى في هذا الصدد فقد أسفرت العقوبات عن نتائج بائسة، وخير مثال على ذلك العقوبات الأمريكية ضد كوبا التي استمرت ستة عقود!.
لذلك، إذا حكمنا من خلال الإحصاءات الاقتصادية التي ظهرت في جميع أنحاء العالم، فإننا على وشك الدخول في فترة أزمة اقتصادية عميقة، حيث سيؤدي ارتفاع معدلات التضخم، واضطرابات سلسلة التوريد، وجائحة كوفيد-19 الذي طال أمدها، وأزمة أوكرانيا، إلى سقوط المزيد من الضحايا معظمهم في البلدان النامية في السنوات القادمة.