منغّصات تعيق المعلّمين في أداء دورهم.. لماذا يتم تجاهلها؟
“لقد فقدنا كل شيء ولم يبق لنا سوى التربية”، مقولة شهيرة للفيلسوف الألماني يوهان فيخته رائد الفلسفة المثالية، وهي تدل على أهمية دور المعلم في بناء الأجيال كقائد للعملية التربوية، وإعادة تشكيل البنية المعرفية والأخلاقية للمجتمع حتى يومنا هذا.
محلياً، واقع حال المعلم يشير بوضوح إلى وجود منغصات عديدة تعرقل قيامه بالأدوار الإنسانية والوطنية المطلوبة منه، ولم يعد بالإمكان تجاهلها إذا أردنا تحقيق التقدم الحضاري المنشود خلال السنوات المقبلة.
دون المستوى!
رغم كل الجهود التي تقوم بها وزارة التربية للنهوض بواقع العملية التربوية والتعليمية، إلا أن تلك الجهود مازالت دون مستوى التحديات أو الطموحات، فواقع المعلم السوري لا يسر الخاطر من الناحية المهنية أو المعيشية، هذا ما أكدته الدكتورة سبيت سليمان رئيس دائرة البحوث في وزارة التربية حول واقع عمل المعلم خلال سنوات الأزمة السورية منذ عام 2011 حتى تاريخه، فالمعلم يمارس مهنته بأمانة وإخلاص رغم الظروف القاسية والاستثنائية للوضع المعيشي، والحصار الاقتصادي الذي لا يتناسب مع مستوى الرواتب والأجور، ومستوى التضخم غير المسبوق، وتتساءل: كيف يمكن للمعلم أن يقدم أفضل ما لديه وهو يفكر في قوت يومه وقوت أسرته؟
وبيّنت سليمان أن المعلم السوري يمارس مهنته الإنسانية ضمن واقع وظروف ليست جيدة تماماً، فكثير من المدارس يكتظ بها التلاميذ والطلاب بأعداد كبيرة، وهي ظروف لا تساعد المعلم على توزيع جهده بشكل عادل على جميع المتعلمين، بالإضافة إلى المشكلات النفسية والانفعالية التي يعاني منها طيف واسع من المتعلمين داخل غرفة الصف أو خارجها بسبب ما عايشوه من صدمات نفسية خلال السنوات الماضية، ليصبح المعلم معلماً ومرشداً نفسياً في الوقت ذاته.
الكثير من العوائق
وبرأي رنيم الأسعد، العاملة في ميدان التربية والتعليم في مديرية التربية بمحافظة حمص، أن واقع عمل المعلم تشوبه الكثير من العوائق، لاسيما ما يتعلق منها بسوء الوضع المعيشي، ولكن رغم الظروف الصعبة ما زلنا مستمرين في العطاء وحمل لواء هذه الرسالة الإنسانية السامية، وحول أهم الأدوار المنوطة بالمعلم في مرحلة إعادة الإعمار بيّنت “الأسعد” أن أهم تلك الأدوار يكمن في تفعيل مساهمة المعلم لإعادة تشكيل منظومة القيم الأخلاقية لدى الأجيال القادمة، وتعزيز الانتماء الوطني لدى الأطفال والمراهقين والشباب الذي شوّهه الضخ المشبوه للمحتوى البصري والسمعي عبر وسائل التواصل الاجتماعي، وما رافقه من مفاهيم دخيلة وغير مألوفة أثرت في مستوى الشعور بالانتماء الوطني خاصة.
لا يسر الخاطر
أما الأستاذ المحامي نصر الدين الدالاتي من نقابة المحامين في ريف دمشق فكانت له وجهة نظر أخرى حول واقع عمل المعلم خلال سنوات الأزمة، إذ بيّن أن الواقع الميداني لا يسر الخاطر، وانعكس سلباً على جودة مخرجات التعليم، وأن هذا الوضع دفع الكثير من التلاميذ نحو الدروس الخصوصية أو المدارس الخاصة، حيث الواقع التعليمي أفضل من مدارس القطاع العام رغم التكاليف الباهظة، وسبب كل ذلك، برأي الدالاتي، أمران اثنان: الأول هو تدني مستوى الرواتب والأجور بما لا يتناسب مع التضخم وارتفاع الأسعار، والثاني غياب التأهيل والتدريب الميداني للمعلم أثناء الخدمة ليكون مسؤولاً تجاه مهنته، وتجاه المتعلمين، وتجاه التطورات الحاصلة عالمياً في الميدان التربوي، فالمطلوب من المعلم أن يواكب التطورات الحاصلة في مجال عمله، وعلى الجهات المعنية تفعيل دور الإعلام المحلي لكي تعيد للمعلم هيبته، وتعيد لمهنة التعليم رونقها الذي عشناه في مرحلة ما قبل الأزمة السورية.
وفيما يتعلق بالأدوار المطلوبة من المعلم في مرحلة إعادة الإعمار أكد الدالاتي أنها تتجسّد بأهمية قيام المعلم بتنشئة جيل واع وملتزم بقضايا وطنه وأمته، ومدرك لحجم المسؤولية الاجتماعية، ويثابر على التحصيل العلمي بتفوق، والتواصل مع المتعلمين وأسرهم بشكل مستمر، فلا يقتصر دور المعلم على ما هو مطلوب منه داخل غرفة الصف، بل يمتد ليطال البحث في المشكلات النفسية والاجتماعية والأسرية للمتعلم في المنزل والتي قد تنعكس سلباً على تحصيله الدراسي، بالإضافة إلى حماية المتعلمين (التلاميذ، الطلاب) من الغزو الثقافي المرتبط بالتفجر المعرفي والتطورات الحاصلة في وسائل التواصل الاجتماعي، لاسيما ما يتعلق منها بالعنف والتمرد وعدم الالتزام بقيم وأخلاق المجتمع وثقافته الوطنية.
وجهة نظر أكاديمية
الأستاذ الدكتور آصف يوسف النائب العلمي لكلية التربية في جامعة دمشق، وصاحب الخبرة الطويلة في الميدان التربوي والتعليمي والأكاديمي في جامعتي دمشق وتشرين ووزارة التربية، أكد أن وزارة التربية عبر مركز القياس والتقويم ومركز تطوير المناهج بذلت جهوداً جبارة خلال سنوات الأزمة السورية لتطوير الواقع التربوي والتعليمي رغم الإمكانيات المحدودة، لاسيما ما يتعلق بتطوير المناهج والدورات التدريبية للمعلمين أثناء الخدمة، وما رافقها من ورشات ودورات تدريبية وندوات.
ليس أزمة
أما عن دور المعلم في مرحلة ما بعد الأزمة السورية فقد أكد يوسف أننا ما زلنا نعيش حرباً وليس أزمة، مشيراً إلى وجود مناهج أخرى غير المناهج الوطنية تطبّق على الأرض السورية في المناطق الخارجة عن سيطرة الدولة، ولكن بالرغم من كل الظروف الصعبة كان وما زال للمعلم وجميع عناصر المنظومة التربوية دور مهم وأساسي في إعادة البناء الفكري للإنسان، فالمناهج موجودة وهي عصرية وبأعلى مستوى من التخطيط والتنظيم، وبنيت وفقاً للأصول العلمية الحديثة، وبأياد وخبرات وطنية مبدعة، ويجري تقويم دوري لتلك المناهج لتواكب التطورات العصرية، وجميع الكادر الإداري والتعليمي في وزارة التربية من أدنى الهرم التربوي إلى قمته يعملون بجد وبجهود استثنائية للحفاظ على مكتسبات النظام التربوي والتعليمي، بمن فيهم من معلمين وموجّهين تربويين ومنسقي المناهج في ظل الظروف الحالية التي يعيشها وطننا الغالي، ودعا يوسف المعلمين إلى أن يحافظوا على مستوى رفيع من الثقافة العامة وسعة الأفق، والتمكن من المنهاج الذين يقومون بتدريسه للمتعلمين، وأن يبذلوا جهوداً خاصة لتعزيز القواسم الوطنية المشتركة التي تربط أبناء المجتمع السوري بمختلف أطيافه، وتعزيز انتمائهم الوطني، وبناء جيل متحضر وواع بقضاياه الوطنية والإنسانية.
داخل غرفة الصف
أما عن الحلول المقترحة لتجويد أداء المعلم وتعزيز دوره الفاعل في العملية التربوية والتعليمية في المرحلة المقبلة، فقد أكد يوسف على أهمية التدريب أثناء الخدمة عبر دورات تدريبية مركزية يمكن نقل محتواها إلى الفروع في جميع المحافظات من خلال موجّهين اختصاصيين وبإشراف مندوبين عن وزارة التربية، مع أهمية تفعيل دور الموجّه الاختصاصي الذي يمكنه رصد أداء المعلم ومؤازرته في حل المشكلات التربوية والتعليمية داخل غرفة الصف، وبحثها لدى المعنيين في مركز تطوير المناهج ولجان التأليف وبإشراف وزارة التربية.
تفعيل الدور
لا شك في أن الآراء السابقة شخّصت الواقع الحقيقي للمعلمين، وبيّنت الجهود الجبارة التي قام بها المعلم السوري لاستمرار الحياة التربوية والتعليمية بأفضل صورة ممكنة رغم الظروف الصعبة والإمكانيات المحدودة خلال السنوات الماضية من الحرب، لكنها في الوقت نفسه بعثت رسائل عاجلة للمعنيين في التربية والتعليم نأمل أن يلتقطوها، والعمل على تنفيذها لجهة العمل الجاد لتعزيز مكانة المعلم الاجتماعية، وتحسين واقعه المعيشي، ودعمه معنوياً ومادياً ومهنياً ليؤدي رسالته المقدسة ودوره الهام في عملية إعادة الإعمار.
د. حسام الشحاذه