نظرية “الاستبدال الكبير” في السياسة الأمريكية
عناية ناصر
أسفر إطلاق النار على متجر في مدينة بوفالو في الولايات المتحدة، عن مقتل عشرة أشخاص وإصابة ثلاثة آخرين، معظمهم أمريكيون من أصل أفريقي، وذلك في حادثة اعتُبرت ذات طابع عنصري، مما أوقع البلاد في حالة صدمة. وكان المشتبه به الطالب الجامعي بايتون جيندرون، المتأثر بقوة بنظرية “الاستبدال الكبير”.
يعود تاريخ ظهور نظرية “الاستبدال الكبير” إلى أوائل القرن العشرين عندما تحدث أبو القومية الفرنسية موريس باريه عن “شعب جديد سوف يستولي على السلطة وينتصر ويدمّر وطننا”، واشتهرت في عام 2011 بنشر كتاب “الاستبدال العظيم” لمؤلفه الفرنسي رينو كامو. ووفقاً لكامو، يتمّ استبدال السكان البيض الأصليين في أوروبا تدريجياً بالمهاجرين غير الأوروبيين، الأمر الذي سيؤدي في نهاية المطاف إلى انقراض السكان الأصليين. وتتماشى هذه النظرية مع نظرية مؤامرة الإبادة الجماعية البيضاء، وهي جزء منها، وسرعان ما روّجت لها حركة تفوق البيض. ويكمن السبب الذي جعل نظرية “الاستبدال العظيم” تحظى بشعبية بين اليمين الأمريكي وتحفيز اليمين المتطرف لارتكاب جرائم إرهابية في انعدام الأمن وغضب المجتمع الأنغلو ساكسوني بسبب أزمة الهوية في ظل التغييرات الجذرية في البنية الاقتصادية، والاجتماعية الثقافية للولايات المتحدة.
أولاً، تحول التركيز الاقتصادي في الولايات المتحدة، منذ السبعينيات، من التصنيع إلى الخدمات، ومع تطور العولمة، فإن الوضع الاقتصادي والاجتماعي للبيض التقليديين، كالعمال آخذ في التدهور. وفي الوقت نفسه، أدى تنفيذ السياسات الاقتصادية النيوليبرالية في الولايات المتحدة إلى موجة جديدة من المهاجرين ذوي المهارات العالية، ما أدّى إلى تفاقم عدم المساواة الاقتصادية بين النخب المهاجرة والقواعد الشعبية المحلية.
ثانياً، من أجل دمج المهاجرين بشكل أفضل في المجتمع، طبّقت الحكومات الأمريكية سياسة التعددية الثقافية، والتي يعتبرها تفوق العرق الأبيض تهديداً للثقافة الأنغلوساكسونية التقليدية.
ثالثاً، فرضت معدلات الخصوبة المتدنية وشيخوخة السكان البيض في الولايات المتحدة، تحديات جديدة. ففي ظل تأثير معدل الخصوبة المرتفع للمهاجرين، سيواجه المجتمع الأبيض تغيراً ديموغرافياً كبيراً في المستقبل القريب.
واليوم، مع تزايد استقطاب السياسات الحزبية، يستخدم السياسيون ووسائل الإعلام اليمينية في الولايات المتحدة بشكل متكرّر نظرية “الاستبدال العظيم” لجذب الناخبين والشعب الأمريكي، وفي هذا الإطار مكّنتها هذه الأنواع من الدعاية من أن تصبح نظرية سائدة.
وفي سياق متصل، دفع تزايد عدم المساواة الاجتماعية خلال وباء كوفيد-19، وحركة “حياة السود مهمة”، وأعمال الشغب التي جرت في كابيتول هيل 6 كانون الثاني 2021، لاستمرار نمو الجناح اليميني في المجتمع الأمريكي، حيث ينصبّ الاهتمام الآن على الروابط بين إطلاق النار الجماعي الذي وقع في مدينة بوفالو، ونشر نظرية “الاستبدال العظيم”. كما بدأ المجتمع الأمريكي أيضاً في التفكير بالآثار السلبية للدعم الواضح الذي عبّر عنه بعض السياسيين والشخصيات الإعلامية لهذه النظرية.
ومع استمرار الجرائم المتعلقة بالتطرف اليميني، سيظل هناك سوق وجمهور لنظرية “الاستبدال العظيم” لفترة طويلة، وذلك لأن الأساس الذي يغذي مثل هذه النظرية لا يزال موجوداً في المجتمع الأمريكي، حيث من غير المرجح أن يتمّ حلّ التناقضات عميقة الجذور في اقتصاد البلاد وسياستها ومجتمعها بشكل أساسي.
إضافة إلى ذلك، توفر وسائل التواصل الاجتماعي والانترنت أيضاً ظروفاً ملائمة لانتشار إيديولوجيات اليمين المتطرف، كما سيكون لتطور التطرف اليميني في أوروبا تأثير مباشر على الولايات المتحدة، ما سيدفع باليمين المتطرف إلى المزيد من النمو عالمياً.
علاوة على ذلك، إذا عزّزت الحكومة الأمريكية الحالية بقيادة الديمقراطيين الحملة على اليمين المتطرف، فقد تواجه مقاومة جدية منهم، ما سيؤدي إلى صراعات عرقية وانقسامات اجتماعية أكبر. وإطلاق النار في مدينة بوفالو نموذج مصغّر للأزمة الاجتماعية في الولايات المتحدة. وإلى أن يتمّ حلّ التفاوت الاقتصادي والمشكلات الهيكلية بالكامل، ستستمر الإيديولوجيات اليمينية المتطرفة التي يمثلها تفوق البيض في التأثير بعمق على بيئة المجتمع الأمريكي وتقويض استقراره.