بكين تترجم بصمتها الاقتصادية في إفريقيا إلى تأثير جيوسياسي بلدان القارة السوداء لاعبون مستقلون.. والاستراتيجية الأمريكية “نحن أو هم” فشلت
البعث الأسبوعية- عناية ناصر
تعيد الصين من خلال التجارة والاستثمار والدبلوماسية الاستراتيجية تشكيل أفريقيا جنوب الصحراء، حيث تتمتع بكين بعلاقات اقتصادية متنامية مع أكبر اقتصادات إفريقيا. ففي عام 2020 ، تم بناء ما يقرب من ثلث مشاريع البنية التحتية في إفريقيا بقيمة تبلغ 50 مليون دولار على الأقل من قبل الشركات الصينية. و بالإضافة إلى ذلك، تحل الصين في العديد من المجالات محل الولايات المتحدة وأوروبا كشركاء تجاريين مع إفريقيا. لقد ترجمت بكين البصمة الاقتصادية المتنامية للصين في إفريقيا إلى تأثير جيوسياسي، إلا أن بعض المعلقين الغربيين نظروا إلى البصمة الاقتصادية المتنامية للصين في إفريقيا، وخاصة “مبادرة الحزام والطريق”، بشك وقلق، زاعمين أن الاستثمارات الصينية عبارة عن مصائد ديون ستؤدي في النهاية إلى استعمار جديد. وعلى الرغم من تلك الانتقادات، استمر تأثير الصين في القارة في الازدياد. فهل صحيح أن مشاريع البنية التحتية الصينية هي مصائد ديون؟ وهل مبادرة الحزام والطريق هي مجرد امتداد لشراكة تدعم فيها الصين التنمية الاقتصادية للدول الأفريقية؟.
في الوقت الذي تدعم فيه النخب الأفريقية “مبادرة الحزام والطريق”، تستمر المزاعم حول استخدامها من قبل الصين كمصيدة للديون والفشل في إيصال مزاياها للمواطن الأفريقي العادي، في إثارة المخاوف بشأن الدوافع الحقيقية للصين. ولنقض هذه الأكاذيب، تعتبر علاقات الصين مع كينيا دراسة جيدة حول كيفية عمل مبادرة الحزام والطريق في إفريقيا، كما أنها تقدم بعض الإجابات حول تلك الأسئلة .فـ كينيا ، التي تعتبر بوابة شرق إفريقيا وأحد أكبر اقتصادات القارة، منصة ممتازة للصين لتوسيع نطاق وصولها إلى بقية القارة. وباعتبارها واحدة من أولى القوى الاقتصادية الكبرى التي استثمرت بشكل كبير في إفريقيا بدلاً من مجرد التركيز على استخراج الموارد، فقد حققت الصين انتشاراً كبيراً في بقية العالم، واكتسبت مزايا في إفريقيا تتطلب الصبر والإبداع والإرادة السياسية.
لدى الولايات المتحدة الكثير من المصالح في إفريقيا، فالقارة هي موطن لاقتصادات سريعة النمو، وتشكل دول أفريقيا البالغ عددها 54 دولة أكبر كتلة تصويت فردية في الجمعية العامة للأمم المتحدة. لذا فإن تقييم الولايات المتحدة لكيفية تعامل الصين مع إفريقيا، و القلق من التأثير الصيني على القارة أمر مبالغ فيه. وبدلاً من التأفف الأمريكي المستمر على وجود الصين في إفريقيا، يحتاج صانعو السياسة الأمريكيين والأوروبيين إلى إلقاء نظرة موضوعية على ما تفعله الدولة، وكيف تعمل على تعزيز مصالحها، وكيف يستجيب الأفارقة. كما أن هناك حاجة لقبول فكرة أن البلدان الأفريقية لاعبين مستقلين، وليسوا بيادق، ويتصرفون وفقاً لما يعتبرونه يخدم مصلحتهم الذاتية.
هل الحزام والطريق فخ ديون؟
تعتبر مشاركة الصين مع كينيا مثالاً جيداً على كيفية تعامل بكين مع الدبلوماسية الاقتصادية في إفريقيا. علاوة على ذلك، إنها دراسة حالة تكشف كيفية عمل مبادرة الحزام والطريق في القارة. تحتاج كينيا إلى بنية تحتية أفضل لتلبية احتياجاتها التنموية، وكانت الصين على استعداد للمساعدة. وكان مشروع تطوير خط السكك الحديدية “مومباسيا نيروبي” القياسي هو المشروع الاستثماري الصيني الرائد في كينيا، والذي يربط خط سكة حديد مومباسا القياسي، أكبر مدينة ساحلية في كينيا، بعاصمتها نيروبي. مول بنك التصدير والاستيراد الصيني 90٪ من مشروع “خط السكك الحديدية القياسية “، بينما ساهمت الحكومة الكينية بنسبة 10٪ الباقية. حيث تولت شركة ” الطرق والجسور الصينية” عملية تركيب خط السكك الحديدية القياسية. وكان من المفترض أن يشير ذلك إلى المساهمة في الأهداف التنموية لـ كينيا وتحفيز النمو في قطاع البناء بشكل مباشر.
أوجد خط السكك الحديدية القياسية حوالي 30 ألف وظيفة جديدة للسكان المحليين ، وفي العام الأول، نقل 5.4 مليون مسافر و 1.3 مليون وحدة تعادل عشرين قدماً من الشحنات عبر كينيا. لو استمر هذا الأداء ، لكانت الصادرات الأفريقية قد زادت بشكل ملحوظ. يقول كبير الاقتصاديين في وزارة الخارجية للبنية التحتية في وزارة النقل والبنية التحتية الكينية أن خط السكك الحديدية مومباسيا- نيروبي القياسي سيزيد التجارة والاستثمار والمزيد من فرص العمل لتعزيز سبل عيش الناس في مجموعة شرق إفريقيا. لكن المشروع واجه مشاكل ، فعلى الرغم من الوظائف التي تم توفيرها للسكان المحليين خلال العام الأول للمشروع ، وحقيقة أن أجور موظفي خط السكك الحديدية القياسي في الفترة من 2015 إلى 2016 زادت بأكثر من الضعف، إلا أن العديد من الشباب الكيني اشتكى من أن معظم الوظائف التي تم إنشاؤها لا تتطلب مهارة ومنخفضة الأجر.
الدول الأفريقية تمتلك الفاعلية
يبدو أن بعض منتقدي ممارسات الإقراض الصينية في إفريقيا ينظرون إلى بلدان مثل كينيا على أنها جهات سلبية عرضة للتخلف عن سداد الديون. ومع ذلك، كانت كينيا مشاركاً راغباً في التمويل الصيني لمشاريع البنية التحتية الخاصة بها، ويقال إنها معرضة لخطر حدوث أخطاء ائتمانية أقل من العديد من البلدان الأفريقية الأخرى، على الرغم من اقتراضها الضخم من الصين. كانت هناك ادعاءات لا أساس لها، على سبيل المثال، أن كينيا كانت معرضة لخطر خسارة ميناء مومباسا لصالح الصين بسبب الديون الضخمة من قروض مشروع خط السكك الحديدية مومباسيا نيروبي القياسي. ومع ذلك، أظهرت دراسة أُجريت في نيسان 2022 صادرة عن مبادرة الصين لأبحاث أفريقيا في كلية الدراسات الدولية المتقدمة بجامعة “جونز هوبكنز” أن التقارير السابقة التي خلصت إلى أن ميناء مومباسا كان ضماناً لقرض شركة خط السكك الحديدية مومباسيا نيروبي القياسي كانت خاطئة. في الواقع ، يحتوي قرض خط السكك الحديدية مومباسيا نيروبي القياسية على تنازل عن الحصانة السيادية التي تحمي الأصول الوطنية لكينيا، وهي ميزة قياسية في تمويل المشاريع التجارية الدولية.
اتخذت كينيا بالفعل خطوات لحماية مصالحها السيادية في التعامل التجاري مع الصين، حيث أصدرت الحكومة الكينية، في عام 2008 ، خطة طموحة لتطوير البنية التحتية، رؤية 2030 ، وهي خطة التنمية طويلة الأجل للبلد التي كانت، وفقاً للوصف، نتاج المشاورات التشاركية بين أصحاب المصلحة الوطنيين والدوليين وكذلك الكينيين العاديين من جميع أنحاء البلاد. كما أصدرت كينيا أيضاً سياسة البنية التحتية للجودة الوطنية، في عام 2019 ، والتي تم تصميمها لمعالجة قضايا الحكم الرشيد من أجل دمج كينيا بشكل أفضل مع الاقتصاد الدولي وتمكين الشركات والمصنعين في كينيا من الوصول بشكل أفضل إلى الأسواق في الاقتصادات الأكثر تقدماً.
إن مشروع خط السكك الحديدية مومباسيا نيروبي القياسي ليس أول مشروع صيني كبير للبنية التحتية في القارة. ففي السبعينيات، أنشأت الصين خط سكة حديد تازارا ، وهو خط سكة حديد بطول 1100 ميل من مناجم النحاس في زامبيا إلى دار السلام في تنزانيا. كان هذا أول مشروع كبير للبنية التحتية لعموم إفريقيا. تم دفع تكاليف تازارا في الغالب من أموال المساعدات الصينية، في حين أن المشاريع الجديدة في إطار مبادرة الحزام والطريق ممولة بشكل أساسي من قروض تجارية صينية.
إن البنية التحتية الحيوية هي مفتاح التنمية الاقتصادية لأفريقيا وفي غياب القروض أو المساعدة من الحكومات الأوروبية أو الأمريكية، تبنت دول مثل كينيا سياسة “التوجه شرقاً”. حيث عمدت كينيا إلى تفضيل الصين والهند وإيران، على شركاء التجارة الأمريكيين والأوروبيين التقليديين. وفي هذا الإطار، قدم بنك الصين للاستيراد والتصدير قرضين مدعومين لخط السكك الحديدية القياسي، حيث عرضت الصين هذه القروض أقل بكثير من القيمة السوقية. واتفق الطرفان على فترة سماح مدتها خمس سنوات من 2015 إلى 2020. وبعد ذلك ، ستسدد كينيا القرض على مدى خمسة عشر عاماً. تتميز هذه المبادرة من قبل الجانبين بأنها تحالف رابح للطرفين. وبينما تسيطر الشركات الصينية على ما يقرب من 70 في المائة من مشاريع البنية التحتية في كينيا، إلا أنها ليست المستثمر الكبير الوحيد في هذه المبادرات، فقد استثمرت أكثر من 60 شركة هندية كبرى في مختلف القطاعات في كينيا.
وعلى عكس الشائعات التي تم تداولها عنها على نطاق واسع، وفقاً لمسؤولين في الحكومة الكينية، لم توافق كينيا بشكل أعمى على عقد خط السكك الحديدية القياسي. وفي عام 2021 ، قال وزير الخزانة الكيني أوكور ياتاني إن كينيا لم تعرض ميناءها كضمان للقرض من بنك التصدير والاستيراد الصيني لإكمال مشروع خط السكك الحديدية مومباسيا نيروبي القياسي، وأشار إلى أن مثل هذا الإجراء من شأنه أن ينتهك اتفاقاتهم مع الدائنين الثنائيين الآخرين. وبذلك ظلت كينيا ملتزمة بمعاملة جميع القروض على قدم المساواة.
عندما تم التفاوض على القرار النهائي في عام 2014 ، أعربت وزارة الخزانة الكينية عن تفاؤلها بشأن خط السكك الحديدية مومباسيا نيروبي القياسي، قائلة إنه سيقلل من تكلفة النقل ويحمي البيئة من خلال خفض انبعاثات الكربون. بالإضافة إلى ذلك ، كان من المتوقع أن يؤدي ذلك إلى زيادة التصنيع، وزيادة الناتج الاقتصادي لكينيا بمقدار 1.5 نقطة مئوية سنوياً، إلا أن هذه التوقعات الوردية فشلت نظراً لأن الحكومة بالغت في تقدير الربحية، وتكاليف البناء كانت أعلى من المعتاد. كما أدى الفساد وضعف المؤسسات المالية إلى جعل مبادرات النقل الكبرى مثل مشاريع خط السكك الحديدية القياسي محفوفة بالمخاطر.
العلاقات الصينية الأفريقية المعقدة
لدى الصين الكثير لتكسبه في أفريقيا، فالقارة غنية بالموارد، ولديها عدد من جيل الشباب، وتحتوي على بعض الاقتصادات الأسرع نمواً في العالم. بينما يتركز الاستثمار الصيني المباشر في الخارج إلى حد كبير في آسيا (بشكل رئيسي في هونغ كونغ)، في عام 2012، كانت إفريقيا ثاني أكبر سوق خارجي للاستثمار الصيني في البنية التحتية. في عام 2015 ، تراجعت إفريقيا إلى المرتبة الثالثة، خلف أمريكا اللاتينية، لكن الشركات الصينية لا تزال متواجدة في مشاريع البنية التحتية في القارة. وحتى الآن يشكك الكثيرون خارج إفريقيا في دوافع الصين لأنهم يقدمون مشاريع البنية التحتية دون أي اعتبار واضح لكيفية استخدام الدول الأفريقية لتلك المشاريع للتطور إلى اقتصادات مكتفية ذاتياً.
التداعيات بالنسبة للولايات المتحدة
حلت الصين في العديد من الأماكن محل الولايات المتحدة وأوروبا، على الأقل في أذهان النخب القيادية في العديد من البلدان الأفريقية بفضل ميلها للدبلوماسية الثنائية ومتعددة الأطراف وسجلها الطويل في محاولة إقامة علاقات ذات مغزى مع الدول الأفريقية. ووجدت دراسة أجريت عام 2020 أنه على الرغم من أن المواطنين الأفارقة قلقون من أن يكونوا مدينين للصين ، إلا أن 63 في المائة اعتبروا وجود الصين له تأثير إيجابي في إفريقيا مقارنة بـ 60 و 57 في المائة الذين أيدوا الوجود الأمريكي والأمم المتحدة في القارة. وتعد مبادرة الحزام والطريق، رغم مزاعم استخدامها كأداة للانخراط في دبلوماسية فخ الديون، والأسئلة التي تثار حول الدوافع الحقيقية للصين، في حين لا تزال مدعومة من قبل النخب الأفريقية، قضية إشكالية بسبب فشل النخب الصينية والأفريقية في إيصال فوائدها إلى المواطن الأفريقي العادي.
إن استراتيجية “نحن أو هم” التي اتبعتها الإدارات الأمريكية السابقة لن تنجح في أفريقيا، كما إن إجبار الدول الأفريقية، على الاختيار بين الولايات المتحدة والصين، يخاطر بتنفير الدول التي تفضل التعامل مع كلا البلدين. المنافسة العالمية بين الولايات المتحدة والصين هي حقيقة من حقائق الحياة، وكذلك وجود مبادرة الحزام والطريق في إفريقيا، كما أن التعامل مع أفريقيا بشروطها الخاصة أمر ضروري. جادل المؤرخ آدم توز في مقال نشر مؤخراً في مجلة “فورين بوليسي” بعنوان “إنه قرن أفريقيا – للأفضل أو الأسوأ” ، فقد ولت الأيام التي يمكن لأي شخص أن يوصي بثقة بنموذج معين للتنمية. تشهد البلدان الأفريقية مثل كينيا ثورة ديموغرافية، حيث من المتوقع أن يصل عدد سكان القارة إلى 2.4 مليار بحلول عام 2050 ، مقارنة بـ 1.3 مليار اليوم. وبالنسبة للسياسة الخارجية للولايات المتحدة ، فإن الفشل في أخذ إفريقيا في الاعتبار والاستمرار في النظر إليها على أنها هامشية في الشؤون العالمية هو مسار نهايته الفشل.