طالب عمران في “نزيف الفقراء”.. قراءة ما وراء الخيال
تعرّف أكثرنا على الخيال العلمي من خلال السينما العالمية التي برعت في إثارة الخيال لدى المتلقي، والتحريض على البحث والتقصي وإثارة الأسئلة، وتحريك المياه الراكدة في مسلّمات كثيرة عبر خيال مجنح لا حدود أمامه. لكن قلّة قليلة هم من تعرفوا على هذا النوع من الفن الأدبي من خلال الرواية والقصة اللذين كانا سبّاقين إلى طرق باب الخيال العلمي والبحث عن التشويق والإثارة، فقد كتب الإنجليزي هربرت جورج رواية “آلة الزمن” عام ١٨٩٥، يتطرق فيها إلى فكرة القفز فوق الزمن والعودة إلى الماضي أو اختراق المستقبل، وسبقه الفرنسي جول فرن إلى هذا المضمار في كتاب “خمسة أسابيع في منطاد”، وقد يكون ابن طفيل في كتاب “حي بن يقظان”، أو أبو العلاء المعري في “رسالة الغفران” هم رواد في مجال أدب الخيال.
وفي سورية يعتبر الدكتور طالب عمران متفرداً في هذا المضمار، حيث قدّم عشرات الكتب التي يحلّق فيها عالياً، في فضاء الماضي والمستقبل، وكلنا يتذكر برنامجه الإذاعي الشهير والمثير “ظواهر مدهشة” الذي أطلق فيه العنان للخيال، يجنّح في سماء العلوم والاستشراف، مستنداً إلى حقائق علمية وقصص واقعية تتسم بالغموض والغرابة يبني عليها عالماً درامياً مدهشاً.
ومؤخراً صدر للدكتور عمران مجموعة قصصية بعنوان “نزيف الفقراء” عن الهيئة العامة السورية للكتاب، تضمنت عشر قصص تتفاوت في سويتها ودرجة مقاربتها للواقع أو لشروط ومنطق ما يمكن تسميته بأدب الخيال العلمي الذي يستند إلى حدّ ما إلى معرفة وإلمام ببعض العلوم الإنسانية، لكي تبقى مقبولة منطقياً، وغير مستفزة لمدارك العقل البشري السليم، كأن نشاهد وعولاً وزرافات وأفعى الأناكوندا العملاقة وقبائل بدائية عندنا في جبل سنجار مثلاً، كما نقرأ في إحدى قصص المجموعة تحت عنوان “تلك التلال الغامضة” التي يحاكي فيها أساطير وقصصاً خيالية خلت كرحلة السندباد أو ملحمة جلجامش في بحثه عن عشبة الخلود في غابة مكتظة بالوحوش والأسرار، لكن في القرن الحادي والعشرين.
ورغم تهميش الإعلام والنقاد لهذا النوع من الأدب، وتعامل بعضهم معه باستخفاف، إلا أن الدكتور عمران يظلّ مواظباً على البحث وتقصي الجديد في هذا المجال الذي لم يتوقف فيه عند اللاواقعي، وحتى اللامنطقي أحياناً، لكنه يسعى للمزج بين الخيالي والاجتماعي الواقعي ليبعث برسائل لاذعة المضمون ينتقد فيها ظواهر وقضايا سلبية معاشة في مجتمعاتنا، ولاسيما في قصتي “ملامح الذاكرة الوراثية” التي ينتقد من خلالها إهمال الدولة للبحث العلمي والعلماء: “.. لو كنت في بلاد متطورة، لقدموا لك الكثير، لكن حتى زملاءك كانوا يحاربونك..”، “ياحسرتي من الذي يهتمّ بالمبدعين والمتفوقين عندنا؟ الكلّ يرسم دائرة حول نفسه، وتضيق عليه حتى تكاد تخنقه”، وقصة “الأصابع السحرية” التي يشير فيها إلى تهجير الأدمغة الذي أصبح عرفاً لا استثناء في بلادنا.
كما يتحدث عن الفساد الذي ينخر في عصب الدولة في أكثر من قصة، ولاسيما في قصة “سادة القهر والمتعة” التي يشير فيها إلى دفن نفايات كيمياوية في صحراء تدمر بالتواطؤ مع بعض المتنفذين الفاسدين، هذه القصة التي يحاول فيها قراءة المستقبل من خلال مجريات الواقع، حيث تتآمر الدول الغنية على الدول الفقيرة لإفراغها من البشر من خلال نشر الفيروسات المميتة على أراضيها: “.. كنت أتوقع ذلك، فالفيروس ليس عادياً، يبدو أنه مدجن في مخابر القوى العظمى”.
وربما يقترب أكثر من الآنيّ الواقعي في قصة “نزيف الفقراء” التي يجعل من عنوانها عنواناً عاماً للمجموعة، حيث يتناول فيها موضوع استغلال الفقراء لسرقة أعضائهم من خلال حكاية شاب فقير متفوق في دراسة الطب تحتال عليه ابنة أحد المتنفذين الأغنياء لتسرق إحدى كليتيه وتزرعها لأمها، ثم يُلقى به في أحد الوديان: “.. لكن الشاب المختفي، لم يظهر سريعاً، وحين ظهر قلب الكثير من القضايا وعاد إلى جامعته وقد انكب أخصائيو الكلية في محاولة لترميم ما حدث للشاب المتفوق، وأما ثابت بيك، فرغم كل التهم الموثقة نفذ من كل شيء بأمواله وسلطته وظلّ الظلم ينتشر بين الفقراء في قرن مرعب”!.
تتميّز قصص عمران باعتمادها على الديالوغ الحواري أكثر من السرد القصصي، ليطلق العنان لشخوص تنسج الحكاية بحرية، بعيداً عن سطوة الكاتب بحيث يضع القارئ ضمن نسيج درامي مكثف ومشوّق معلوم الزمان والمكان ليضفي عليها صفة الواقعية القادرة على شدّ المتلقي وإقناعه.
ورغم صعوبة الخوض في هذا النوع من الأدب الذي يتطلّب إلماماً ومعرفة بالعلوم الإنسانية المتعدّدة، فإن الدكتور عمران يحرصُ في كلّ مؤلّف له على تقديم الجديد والمثير للدهشة بأسلوبه المحبوك بإتقان العارف والخبير، لكنه في هذه المجموعة لم يقدّم قصصاً متقاربة بسوية حداثة الأفكار والأسلوب المجدّد، فقد نقرأ الكثير من القصص المكرّرة والممجوجة إلى حدّ أنها تتقاطع مع أفكار كثيرة طُرحت في الأدب والسينما العالميين، ففي قصة “ملامح من الذاكرة الوراثية” التي تتناول حكاية الدكتور عاصي وبحثه في الذاكرة الوراثية واكتشافه محلولاً يحرّض خلايا الذاكرة الوراثية للعودة بالزمن إلى الوراء عصوراً خلت، هذه الفكرة يمكن أن تتقاطع وتتلاقى مع فكرة رواية الكاتب المصري مصطفى محمود “العنكبوت” التي تحكي عن باحث يتوصل إلى أكسير يجعله ينتقل بين الأجيال، وفي روايته الثانية “رجل تحت الصفر” التي تتناول قدرة الإنسان على التنقل بسرعات خارقة بين النجوم والمجرات، كما نرى في قصة عمران “تحت أرض القمر”.
رغم ذلك يبقى الدكتور طالب عمران حالة متفردة تغوص بعيداً فيما وراء الطبيعة والواقع، يستنبط من خلال ذلك محفزات للبحث والتقصي وإثارة الأسئلة وعدم الاستسلام للمسلّمات فيما يدور حولنا، بأسلوبه الدرامي المشوّق والممتع.
آصف إبراهيم