Uncategorizedثقافةصحيفة البعث

طلال الغوار في “نداء لصباحات بعيدة” مقاربة رواية ذاتية بين بغداد ودمشق

“الرياح وحدها تستطيع أن تفتضّ رسائل الطيور المخبأة في أغصان الأشجار”، هذه المفردات المتشابكة المعاني كتبها الشاعر طلال الغوار في كتابه الجديد “نداء لصباحات بعيدة” الصادر منذ أيام في سورية عن دار الينابيع، والذي اتخذ جسراً بين العراق وسورية عبْر أبواب وفصول مضت بطابع السرد المتداخل والمتناغم، والأقرب إلى سيرته الذاتية ومشاهداته في سورية ودمشق خاصة، فكان أشبه بأوركسترا عزف فيها على أوتار توصيف المدن والامتداد الوتري لمعالم الطبيعة التي تشكّل محوراً أساسياً في شعر الغوار، تتكئ إليه كل الوجدانيات والإنسانيات.

الزنزانة المظلمة

والملفت البعد السياسي من خلال نضال الغوار وتعرّضه للسجن وتنقله بين الزنزانات الضيقة الخانقة، ليعيدنا إلى أجواء الروايات العربية والمصرية بالتحديد، والتي أخذت طريقها إلى السينما. فدوّن في “أحببتك فعرفتك سجناً ومنفى” وقوعه بقبضة السياسة محللاً الرؤية السياسية لدى هذه السلطة التي تتجسّد في ممارساتها القمعية، فيجد نفسه منقاداً إلى زنزانة تتبعها زنزانات عدة، وصار رقم زنزانتي 73 وصاروا ينادونني بهذا الرقم بدل الرقم 54، ولا أدري لماذا تمّ نقلي إلى هذه الزنزانة، إنها لا تختلف عن سابقتها إلا في ارتفاعها، فقد كنتُ أنحني قليلاً، حينما أقف كي لا يرتطم رأسي بسقفها، ليخلص الغوار إلى ما فعلته هذه السياسة: “ما الذي فعلته هذه السياسة أمام الفوضى التي أحدثها ما يُسمّى بالربيع العربي” موقعاً ضمدي جرحك بالآهات أيتها البلاد.

النهر والمقبرة

وظّف فنياً في هذا الكتاب لغته الشعرية المنسابة الرقراقة بمسار روائي يمتد منذ طفولته وتعلقه بالبيت الطيني في قريته العوجة في تكريت التي وُلد فيها: “بيتنا كان مبنياً من الطين (الطوف) وسقفه من الخشب وأغصان الأشجار والشوك، على ضفاف هذا النهر نهر دجلة ولدت القرية، فالنهر هو سرّ وجودها ورمزها البهي وروحها، حينما يمنحها الحياة المستديمة”. ويمضي متنقلاً بين عتبات السرد التي تطال الحنين تارة والوصف تارة، ومناجاة الليل وذكرياته: “ليل القرية في الصيف، أكثر حرية من ليل الشتاء، ففي الصيف تراه ينتزع الحجاب ويسير وحيداً طليقاً، ينسج لغة مشتركة بينه وبين الأشجار والطرقات”. وتعود عتبات السرد إلى الحب القديم المرتبط بالوتين في نصّ “في القلب يخطّ رسالته الأولى”، إذ يأخذ القارئ بأسلوبه العاطفي الشائق إلى لقاء عاطفي داخل المقبرة: “نحن الاثنان والقبر ثالثنا، أية رهبة هذه التي تداهمني وأنا أنظر إلى عينيها، فأرى الخجل يتلألأ في بريقهما، مسكت يدها، كم كانت رقيقة ودافئة يدها”.

دمشق والياسمين

ومثل كل من يزور دمشق ويشعر بشيء يشدّه إلى حاراتها وأقواسها وبحرات بيوتها فيعرش حبّها في قلبه مثل عرائشها وياسمينها، عشق الغوار دمشق القديمة وأفرد لها باباً (لا تقرأ صباح دمشق إلا شعراً) وخصّها بوصف رقيق ينساب إلى القلب مثل عطر الياسمين: “كلما أوغلت خطواتي بعيداً في دروب دمشق القديمة، أشعر أن عطر الياسمين يختلط مع عبق التأريخ، فتأخذني نشوة لم يتسع لها كلّ هذا البهاء، فأحسّ وكأني أعرفها جيداً، وأني أتآخى مع كل ما يحيط بي”.

نزار قباني

ومن أجمل ما كتبه عن دمشق كان وصفه لمنزل نزار قباني الذي زاره برفقة الشاعر الدكتور نزار بني مرجة: “وقفنا في باحة البيت عند حوض الماء، تحيط به شجرتا ليمون ونارنج والثالثة كانت شجرة الكباد، فيما الياسمين والياسمين العراتلي واللبلاب والجوري والمنثور منتشرة في باحة البيت”.

خالد أبو خالد

كما كتب عن زيارته للشاعر خالد أبو خالد مستحضراً ما دار من حديث حول زياراته إلى العراق للمشاركة في مهرجانات المربد الشعري، ومن ثم تعقيبه على ديوانه (قصائد حبّ إلى هانوي) وسفره إلى فيتنام، وعمله الفدائي في غور الأردن وسفره إلى الكويت وعلاقته بالشاعر بدر شاكر السياب، وفوجئ الغوار بأن خالد أبو خالد فنان تشكيلي أيضاً.

سوق الحميدية

ولم يكن تعلقه بالأمكنة والرموز فقط، إذ كتب عن صديقته الأديبة ميسم الشمري التي رافقته في ندوات وحوارات وأحياء دمشق ومعالمها بلغة تصويرية تأخذك إلى أسطر رواية تتكئ إلى المكان والتاريخ: “لتأخذنا كلماتها بلهجتها الشامية المحبّبة إلى نفسي في طرقات الشام القديمة، هذا سوق الحميدية يعجّ بالحياة، وسوق مدحت باشا يمتد في حديثنا المتواصل”.

قيس وليلى

ولم يقتصر وصف الغوار لدمشق فقط، إذ زار الساحل السوري وكتب انطباعاته عن مشاهداته في طرطوس والمناطق المحيطة بها بتوصيف دقيق لسحر المكان، كما في نصّ “الوادي الأخضر” برفقة الفنانة التشكيلية ماسا: “في إحدى المنخفضات مررنا بجسر خشبي قديم مستلق في عرض الوادي يوصل بين ضفتيه وطوله بضع أمتار، وقد هاجر الماء من تحته ليصبح وادياً جافاً، شاهدتُ في بدايته قطعة كُتب عليها (جسر قيس وليلى) لتجيب مايا: العشاق لايموتون يا صديقي”.

الشجرة وفيروز

ومن المحطات الجميلة “انتماء” الذي يربط بين صوت فيروز والشجرة الحاضرة دائماً بكتاباته: “الشجرة التي طالما ساررتُها عبْر هذه السنوات بكل شيء، وأنا أستظل بفيئها، وأودعها الكثير من أحلامي وأحزاني”.

السرد والشعر

وبعد فصول وعناوين الكتاب، أوجز طلال الغوار في حديثه لـ”البعث” دافعه لخطّ هذا الكتاب، فقال: هناك بعض الأفكار والرؤى، لا يستطيع الشعر أن يعبّر عنها، فوجدتُ أن السرد هو الأسلوب الأنجح لاستيعابها، فضلاً عن أني أستطيع أن أوظّف اللغة أكثر من الشعر بشكل حرّ.

ملده شويكاني