سفرهم الأخير!
حسن حميد
الآن، وحين يمرّ الشريط الذهبي لليوم التاريخي 25 أيار 2000، وما حدث في الجنوب اللبناني آنذاك، يشعر المرء بأن الكرامة صارت قرىً، وأن الصبر صار مجدلية عزوم، وأن الروح حلّقت في الأعالي مثل الطيور، وأن المقاومة صارت كتاباً خضيلاً لا تنفد معانيه.
ها أنذا، أستعيدُ المشهد بجلاله الشعبي الرزين، حيث ملأ الناس، صغاراً وكباراً، ذكوراً وإناثاً، الدروب الصاعدة نحو الجنوب، فبدوا مثل أدراج راهجة في فضاء وسيع.
ها هي القرى، أمّ الشهداء، تقف إلى جوار الدروب كائناتٍ نورانية، أبوابها نور، وأهلها نور، وحواكيرها نور، وتلويحات أيديهم المتعالية في الهواء نور، وزغاريد الأمهات والصبايا وتهاليلهن نور، والأخبار الطالعة مثل جهجهة الفجر علواً نور، ها هي بوابة فاطمة تبدو في صدر المشهد وهي تُغلق، وجنود الاحتلال يستديرون مخذولين، وقد ابتلوا بالذلة التي تليق بمحتل مهزوم ينسحب مثل الأفاعي ليلاً، وقد كان هو الخائب نهاراً، والذي وعى وأدرك أنه السّارق اللص طوال تاريخه المشين، ها هو صوت إغلاق البوابة الفاطمية الرّاج يملأ سمعي فيضجّ القلب، وتمتلئ اللهاة بطيب الكلام، وها هي أيدي أبناء الجنوب الذين وصلوا إليها تترادف فوق حديد البوابة العالية.. لتعلو الصلصلة البهيجة المرنّمة: الحياة وقفة عزّ!.
وها هو المشهد الذي لا أنساه، حيث أرى القرى الجنوبية تتسابق يافطاتها بأسمائها الدّالة فلا تتوقف إلا عند التخوم، وفوقها وحولها تعلو الأناشيد والهتافات مثل رفوف الطير، يا لأهل القرى الذين أراهم بوجوههم الشّارقة، ويا للخطا السابحات التي تمرّ بالحقول، والأسيجة، والأحراش، والسناسل، والمفارق، والجسور، ويا للأمهات والصّبايا اللواتي أشعلن النيران الهادئة في الصّباح الباكر تحت صاجات الخبز، وقربهن فُرشت أطباق القش وقد علتها الأرغفة الشقر، وأصواتهن المتعالية الرّاجية أن يأكل المارون بهن من خبزهن الساخن!.
ويا للمشهد المذهل للناس أهل الحقّ، وهم يدخلون إلى سجن الخيام، فيحطمون بالعزم المكنون، بوابات الزنازين الحديدية لأن المقاومين ما زالوا فيها، ها هي أيديهم تصير مفاتيح للبوابات الحاجبة للأبطال وراءها، ها هي الأبواب تتساقط مثل ورق الخريف، وها هم الآباء والأبناء يطلون بوجوههم الناحلة وقد أشرقت بابتساماتهم البيض، يا لهذه الرؤية، ويا لهذا الجذل الصّباحي!.
ها أنذا أرى الأذرع تصير عناقات وتمتمات وهمهمات وأفراحاً، وها هو رجل طويل ناحل مثل رمح، يصرخ: هنا، وخلف هذه الزنازين سراديب ملأى بأهلنا، تعالوا.. تعالوا، ويستدير، فيلحق به الناس، ويعودون ومعهم من صبروا، ومن تعذّبوا، ومن حلموا بجمال هذا الصّباح الرّحيب.
وها هي الأعلام اللبنانية والسورية والفلسطينية، وأعلام المقاومة، تصير المشهد كلّه، تصير المعنى كلّه الذي من أجله مشى الشهداء الدروب الوعرة.
بلى، يوم 25 /أيار/2000 كان الكتاب الأبدى بأسطره ومعانيه الذي قرأ فيه أهل فلسطين الخلاصات العوالي التي حرّرت قطاع غزة /2005/ من قبضة الاحتلال القذرة، وهو الكتاب الذي قال، ويقول بوضوح شديد، إن هذا هو المآل الخاتمة لكلّ احتلال، وأنه ليس أمام الإسرائيليين سوى الخروج من أرضنا، وعليهم أن يكتبوا، ويرووا، ويصوّروا مجازرهم التي اقترفوها، والدم الذي أراقوه حتى صار أنهاراً، والظلم الذي صهروا به الحجر والشجر والبشر حتى صار قلاعاً، والخوف الذي زرعوه حتى صار أشواكاً أحاطت بكلّ شيء!.
بلى، عليهم أن يكتبوا ويرووا ويصوّروا هذا.. ليكون (سِفرهم) الأخير!.
Hasanhamid55@yahoo.com