أثر القوانين دون المستوى.. والثقافة المجتمعية في خانة الاتهام..!.
تعليقات كثيرة وردود حملت طابع النقد تارة والتأييد تارة أخرى لما حمله دخول قانون الجرائم الإلكترونية حيّز التنفيذ في الأيام الماضية، فعلى الرغم من صدور القانون منذ أكثر من شهر إلّا أن الصعوبة كانت واضحة في تقبّل تطبيق بنوده، الأمر الذي لمسناه في تعليقات البعض التي حملت جُملاً وإيماءات ورموزاً تدلّ على صعوبة التزامهم به، لا لصعوبة ما ينصّ عليه القانون هذا، بل لغياب ثقافة الالتزام بالقوانين في مجتمعاتنا العربية، لكنّ على ما يبدو كانت العقوبات الرادعة بين طيات هذا القانون كفيلة بانصياعهم واحترامهم لما جاء فيه، إذ لطالما كان الالتزام بتطبيق الكثير من القوانين التي تحكم المجتمع السوري ضعيفاً في الكثير من المطارح لأسباب عديدة أرجعها البعض إلى ثقافة المجتمع ككل أو إلى ضعف وخلل في صلب القوانين المفروضة على المواطنين.
أساليب ملتوية
على مبدأ “خالف تُعرف” وكنوع من التباهي والظهور بمظهر المتحدي لنُظم المجتمع نجد حالة من “التطنيش” واللامبالاة عند كثيرين في تطبيقهم للقوانين التي لا يعتبرونها مهمّة وتعيق حركة عملهم، ومنها على سبيل المثال عدم التزام شريحة لا يُستهان بها بقوانين السير العامة، وإصرارهم على مخالفة الإشارات والقواعد المرورية “على عينك يا شرطي”، وعلى الرغم من تعرّض هؤلاء الأشخاص مراراً وتكراراً لحوادث مرورية إلّا أن الطبع لا زال للأسف يغلب التطبّع لديهم، خاصّة وأن العقوبات المفروضة لا زالت غير رادعة، أو أن الالتفاف على تطبيق هذا القانون وغيره بأساليب ملتوية بات سيّد الموقف، لنصل إلى خلل واضح وفوضى عارمة تجتاح أغلب المؤسّسات ونظم الحياة المجتمعية، عدا تلك القوانين التي نجحت في فرض عقوبات قاسية بحق مرتكبي جرائمها واستطاعت إلزام المواطنين تقبلها والتقيّد بها مع مرور الزمن، ولعلّ خير مثال على ذلك القانون الأخير للجرائم الإلكترونية.
تساهل في التطبيق
تعدّدت الأسباب والنتيجة واحدة، فبين غياب ثقافة الالتزام بالقوانين والقواعد الموضوعة وعدم وجود الوعي الكافي في تطبيقها، وبين التراخي في تطبيق القوانين وعدم التشديد في العقوبات، نصل إلى عدم قدرتنا اليوم على تنظيم المجتمع وإلزام المواطنين بتطبيق جميع قوانينه في حياتهم الاجتماعية والعملية، والتي تبدأ بتجاوزات ومخالفات البناء لمنازلهم مروراً بخروجهم إلى الشارع والحياة العامة، إذ يرى الدكتور إياس اسكندر “علم اجتماع” أن التخفي خلف إصبعنا لم يعد أمراً مقبولاً، خاصّة وأن الفجوة بين المواطنين والتزامهم بتطبيق القوانين باتت كبيرة تحتاج للبدء بغرس ثقافة الالتزام واحترام القوانين في الجيل الناشئ، مع إشراكهم بسنّ القوانين التي ستصدر في المستقبل القريب من خلال الأخذ بمقترحاتهم والخوض في نقاش حتى لو استغرق أشهراً طويلة، وصولاً إلى صدور قوانين يحترمها الجميع ويسارعون إلى تطبيقها.
وألقى اسكندر اللوم الأكبر على طريقة التعامل مع متجاوزي القوانين والتساهل في تطبيق العقوبات عليهم، الأمر الذي يؤدي إلى تمادي شرائح أخرى ومخالفتهم لهذه القوانين وعدم احترامها، في حين نجد هذه الشريحة سبّاقة إلى الالتزام بجميع القوانين مهما قلّ حجمها وضعفُت مخالفتها في البلدان التي يسافرون إليها، فالرقابة على تطبيق القوانين في البلدان الأوربية والعقوبات المحتّم نيلها المخالف بشكل عادل دون أي رشوى أو واسطة أو تساهل تجعل العلاقة بين المواطن والقانون علاقة احترام. ووصف الدكتور اسكندر علاقة المواطن بالقانون في بلدنا بالاستهتار واللامبالاة في الكثير من المطارح، مع غياب واضح للانضباط الذي أودى إلى جرائم كثيرة خاصّة خلال السنوات الأخيرة.
ردع عام
وبعيداً عن التفسيرات والتحليلات الاجتماعية أجمع رجال القانون في الآونة الأخيرة على ازدياد البعد في العلاقة بين المواطن والقانون، ولاسيمّا خلال سنوات الحرب وما بعدها، لأسباب عديدة ناتجة عن مفرزات الحرب وحالة الفلتان التي كانت حاصلة والتي ازداد معها عدد الجرائم والمخالفات والتجاوزات في جميع مناحي الحياة، ونفى المحامي أحمد عثمان وجود ضعف في القانون والعقوبات الموضوعة بحق جميع الجرائم والمخالفات، لكن وجود تساهل في تطبيق القانون من قبل بعض الجهات أدّى إلى عدم التفكير في عواقب الجرم، الأمر الذي يتطلّب تشديداً في العقوبات وتطبيقاً جديّاً ملموساً لجميع المخالفين على حدّ سواء لردع باقي شرائح المجتمع. ورفض عثمان تعليق جميع الأخطاء والتجاوزات الحاصلة اليوم على سنوات الحرب التي لم تعد تتحمّل كل ما يحدث من فوضى وتسيّب وتجاوزات، الأمر الذي يستدعي تكاتف جميع الجهات، بدءاً من وزارة الإعلام والمنظمات الأهلية لإعادة إعمار المواطن السوري وغرس الوعي القانوني وحسّ المسؤولية بالالتزام بتطبيق قوانين المجتمع وتنويره بعواقب عدم احترام الأنظمة والقانون، والتي يجب أن تكون سواسية على جميع المواطنين لخلق حالة الردع العام وهذا ما نفتقده في مجتمعنا، وخاصّة خلال سنوات ما بعد الحرب التي تحتاج إلى ترميم التصدعات الكبيرة والقضاء على الطرق والأساليب الملتوية التي باتت أداة سهلة بيد الكثير من الفاسدين والمتجاوزين للقانون.
ضرورة حتمية
لا تزال صورة حزام الأمان غير مقبولة في مجتمعنا، والالتزام بها لا زال “حسب الذاكرة والوعي” لا حسب العقوبات المفروضة من قبل إدارة المرور على مخالفيها، في حين نجد أن الصورة نفسها تعبّر عن التقدم والحضارة والرقي في المجتمعات الأوربية، فعلى الرغم من بساطة وسهولة وعدم بذل أي جهد أو صرف أي مبلغ مادي أو جهد عضلي للتقيّد بهذا الحزام إلّا أنّ الواقع اليوم يشي بصعوبة الالتزام بأي قانون مهما بلغت بساطته، لتبرز الحاجة الملحّة لإعادة ضبط وتنظيم الأمور الحياتية بعد تشتّت حرب طال أمدها لسنوات اختلّت بها الأمور والموازين، ووصلت بنا إلى تعطّش لمراجعة شاملة لأحكام جميع القوانين وتعديل ما يلزم منها لمواكبة الظروف الاستثنائية التي مررنا بها، وصولاً إلى قوانين رادعة ناظمة حقيقية يتساوى عندها جميع أبناء المجتمع تيّمناً بما قاله الفيلسوف الفرنسي “فولتير” واصفاً القانون وعلاقته بالمجتمع بهذه الجملة: “لا تدبّ الحياة في القانون إلا عندما تختلّ الأمور”، وهذا ما وصلنا له اليوم، ويبقى السؤال: ما الفائدة من القانون إن لم ينفّذ ويحقق الهدف والغاية منه؟.
ميس بركات